الاثنين، 15 سبتمبر 2008

التدرج



بسم الله الرحمين الرحيم



الفكرة التي نريد التطرق إليها ومعالجتها وتبيان فسادها هي فكرة التدرج في أخد الإسلام وما تولد عنها من فكر جواز مشاركة المسلمين في الأنظمة الحالية. والقول بأن الديمقراطية من الإسلام من باب تقريب الإسلام إلى العقول نظراً لعلاقة هذه الأفكار الوثيقة بعمل بعض ا لجماعات في التغيير.

فما هو التدرج؟ وماذا يشمل في نظر القائلين به؟وما هي مسوغاته ؟ وما هو الحكم الشرعي فيه؟...

لما وصل المسلمون إلى الحضيض في الهبوط الروحي، والتخلف المادي، والتأخر الفكري، والانحطاط السياسي، صارت أفكارهم من جنس واقعهم السيئ. ونشأت عند المتمسكين بالإسلام أفكار لا تعبر عن حقيقة الإسلام ونظرته للحياة، بل تعبر عن سوء فهم وعدم إدراك لحقائق الإسلام وتوجهاته في الحياة. واستطاع الكافر المستعمر الذي أصبحت أمور المسلمين في يديه، يقلبها كيف يشاء، أن يغرس مفاهيمه ومقاييسه بين المسلمين. وأن يزرع أفكاره التي أنبتت زرعاً مختلفاً أكله يطيب في فم أعدائه، ويحلو في لسانهم. وكانت الجولة لمصلحته. والسبب لم يكن في الإسلام بل في أهله الذين فقدوا التقيد الواضح، وضاع منهم الفهم الصحيح. ولقد حاولوا المقاومة بفهم متأثر بالواقع وخاضع للمصلحة، ولكنها كانت محاولات عوجاء وخطوات عرجاء انتهت بهم إلى الفشل الذريع والاستسلام المريع. وبقي الكفر يرتع في بلادنا ولا من مانع يمنعه أو زاجر يردعه. فكيف هاجم الكافر المستعمر الإسلام؟ وكيف كان رد المسلمون؟

هاجمه بأن اتهمه بأنه لا يستطيع مجاراة العصر، ولا يستطيع إيجاد الحلول للمشاكل المستجدة. وكان الرد من المسلمين بمحاولة إيجاد حلول في الإسلام بما يقول به النظام الرأسمالي. وبما أن الأساس الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي يتناقض كلياَ مع الأساس الذي يقوم عليه الإسلام عمدوا إلى التوفيق بين النقيضين فعمدوا إلى التأويل المغلوط والذي أوجد مفاهيم ومقاييس مغلوطة نسبت إلى الشريعة زوراَ وبهتاناَ. وكانت الغاية من ذلك إيجاد الانسجام بينهما، وإعطاء الصورة التي تظهر أن الإسلام قادر على مسايرة التطور. وكان جراء ذلك أن أخد بها على أساس أنها أفكار وقواعد ومقاييس إسلامية، ومن خلالها يفهم الإسلام. مع أن الأخذ بها يعني ترك الإسلام واتباع النظام الرأسمالي. وكل دعوة للتوفيق أو متأثرة بهذا التوفيق هي دعوة لأخذ الكفر وترك الإسلام. ويعني كذلك حمل أفكار الكفر للمسلمين ودعوتهم لأخذها وترك الدعوة الإسلامية الحقة.

لذلك، لما حاول المسلمون إبان عصور الانحطاط، النهوض بالأمة بمثل هذه الأفكار، كان عملهم هذا ضغثا على أبالة ولم يستطيعوا انتشال الأمة من الحضيض لأنهم هم نزلوا إليه.

من هنا بدأنا نسمع الألسن تتطاول على الشريعة الإسلامية، بقصد أو بغير قصد، فتدعي أنه لا يعقل ونحن على بعد أربعة عشر قرناً من بعثة الرسول {صلى الله وعليه وسلم } أن نضل نحتكم لنفس العقلية السابقة. فلا بد في نظرها من التجديد، تجديداً يواكب الظروف ويجعل الإسلام في المقدمة من جديد، ولا بد من إلباسه لباس الحداثة، وتطعيمه بالأفكار العصرية حتى تألف القلوب عليه من جديد، وحتى يخرج من انغلاق، واتهام الآخرين له. فلباسه القديم لم يعد مقبولاً.

ومن هذا المنطلق خرج بعض المسلمين بعدد من الأفكار التي تشكل قواعد فكرية لهم، وتحدد مسار القائلين بها، وتعين توجههم الجديد في الحياة. وهي ما اتفق على تسميتها بأفكار عصر الانحطاط، التي ظهرت إبان ظهور النهضة الغربية الفاسدة في بلادنا، حيث ظن هؤلاء المسلمين أن مسايرة الزمن، والاستفادة من الفكر الغربي الناهض أمر مطلوب إسلاماً ليبقى الإسلام على مستوى العصر.

فظهر كثير من الأفكار المتأثرة التي تخدم هذا الاتجاه من مثل: {إن الدين مرن ومتطور}، {خذ وطالب}،{ القبول بما يوافق الشريعة أو بما لا يخالف الشريعة}،{ ارتكاب أخف الضررين وأهْون الشرين}،{ما لا يؤخذ كله لا يترك جله}، {التدرج في أخذ الإسلام}، {الديمقراطية من الإسلام}، {لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمن والمكان}، {حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله}. وصارت هذه الأفكار وما شاكلها هي المنطلق الفكري أو القواعد الفكرية لما سمو [ بالنهضة الإسلامية الحديثة والتي كان أهم روادها الماسوني جمال الدين الأفغاني وتلميذه الماسوني محمد عبده الذي كان يسمى بشيخ الإسلامٍٍ].

إن مثل هذا الكلام قاله أناس عن سوء نية وخبث طوية لكي يفصلوا المسلمين عن أسباب قوتهم، ويورثوهم ضعفاً يقعد بهم عن إقامة أمر الله ثانية.

وقاله أناس عن حسن نية وسلامة قصد ظناً منهم أن في ذلك البلسمَ الشافي لكل ما يعاني منه المسلمون االيوم من تدهور وانحطاط.

وهذا الكلام، سواء أصدر عن سوء نية أو عن حسنها فإن أثره في الواقع واحد. ونحن على كل حال نحذر المسلمين من كيد الكفار لهذا الدين، وننصحهم بالإقلاع عن مثل هذه الأفكار التي أثبتت عقمها في أرض الواقع، فلم تنبت خيراً ولم تبعد شراً. وان الله سبحانه وتعالى جعلنا أغنى الناس، ففي الإسلام من الكفاية ما يغني عن الأخذ من غيره. وان طبيعة الإسلام تفرض طريقة أخذه. فالدين الإسلامي منزل من عند الله ليعالج شؤون الحياة. وما على المسلم إلا أن يجتهد في النصوص الشرعية المنزلة وليس خارجها ليعرف حكم الله تعالى. وان القواعد الفكرية التي تلزم في الحياة يجب أن تكون منضبطة بأدلتها الشرعية فهي أحكام شرعية ولها أدلتها التفصيلية. وطريقة الاجتهاد هذه ثابتة وواحدة ولا يجوز تبديلها بحال من الأحوال. ومن هنا ينطلق أساس نهضتنا تماماً كما انطلقت من قبل.

ولا بأس بالتذكير ببعض هذه القواعد والأفكار الشرعية المنضبطة التي يجب أن تسيطر على أذهان المسلمين لتضبط توجههم وتعين اتجاههم ليندفعوا للعمل بحسبها. وهي من مثل: {حيثما يكون الشرع تكون المصلحة وليس العكس}، {الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي }،{الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم}، {الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع}،{الخير هو ما أرضى الله والشر هو ما أسخطه}، {لا حكم قبل ورود الشرع }،{من أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكا}،{إن الأمة الإسلامية هي أمة واحدة من دون الناس}،{إن الإسلام لا يقر الوطنية ولا القومية ولا الاشتراكية ولا الديمقراطية}، {إن الإسلام طراز معين في العيش يختلف عن غيره كل الاختلاف}..

وإن الوقوف أمام بعض النصوص الشرعية يدل دلالة واضحة على أهمية التقيد بما كان عليه السلف الصالح وعدم الخروج عنه إلى الابتداع. لأن كل ابتداع في الدين مذموم.

يقول: الرسول صلى الله وعليه وسلام {وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أ بداً، فلن أمراً، بيناً، كتاب الله وسنة نبيه}(سيرة ابن هشام) وكلمة((أبداً)) تشملنا.
ويقول: صلى الله وعليه وسلم {وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار ماعدا واحدة. قالوا ومن هي يا رسول الله ؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي اليوم} (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حنبل).

ويقول: صلى الله وعليه وسلم {تركتكم على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها بعدي إلا كل ضال} (رواه ابن ماجه وابن حنبل).

ويقول: صلى الله وعليه وسلم {خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم } (رواه مسلم).

ويقول: صلى الله وعليه وسلم {..إن من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار.. عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين االمهديين، عضوا عليها بالنواجذ} (رواه أبو داود والترمذي)
ويقول: صلى الله وعليه وسلم {كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد} ( رواه البخاري ومسلم).

ففي هذه الأحاديث دعوة إلى الإتباع الحسن والتحذير من الابتداع. وترتيب الخيرية يدلنا على أن الالتزام يضعف كلما ابتعد الزمان عن زمن الرسول صلى الله وعليه وسلم مما يحمل الدلالة على أنه كلما ابتعد الزمن كلما اقتضى منا ذلك تمسكاً أقوى، والتزاماً أشد، وتحرياً للصواب أكثر. وتوخياً للإخلاص أكبر. وإذا كان المطلوب منا أن نعض على سنة الرسول صلى الله وعليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. وأن نكون على ما كان عليه الرسول صلى الله وعليه وسلم وصحابته. فعلينا أن لا نبتدع في الدين، وأن لا نخرج إلى محدثات الأمور، فإن ذلك مردود على فاعله. فكيف السبيل إلى ذلك في أيامنا هذه؟

إنه يكون بأن نحافظ على العقيدة الإسلامية نقية صافية في نفوسنا، لم يطرأ عليها أي عامل من عوامل التغشية.

وأن نعب من مصادر الإسلام النقية الصافية.

وأن نحافظ على طريقة الاستدلال المنضبطة التي تمنع الهوى والرأي من أن يتسرب إلى الحكم الشرعي.

وأن نجعل الإسلام أهم شيء في حياتنا: أهم من أنفسنا وأولادنا وأهلينا، ومصالحنا وأهوائنا، بحيث تكون كلمة الله هي الدليل في نفوسنا، وبحيث لا نقدم بين الله ورسوله، وبحيث نكون كما كان الحل زمن السف الصالح.

وأن نخلع أفكار الكفر وأدرانه من نفوسنا وعقولنا ونبعد عنا بهرجه وبريقه، كما كان يخلع الصحابة رضوان الله عليهم أدران الجاهلية أمام عتبة الإسلام ويدخلون فيه أنقياء أتقياء.

وهذا كله يقتضي منا عوداً على بدء، فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. فهذا لازمة لا يستغني عنها المسلمون في كل مرحلة من مراحل حياتهم. وبحسب قربهم منها أو بعدهم عنها يكون حالهم قوة أو ضعفاً. وبعد هذا التمهيد نسأل: ما هو التدرج؟ وماذا يشمل في نظر القائلين به؟ وما مبرراته؟ وما موقف الشرع منه؟.

إن التدرج يعني الوصول إلى الحكم الشرعي المطلوب على مراحل وليس دفعة واحدة. وهو ما يعبر عنه عند أصحابه بالمرحلية. فيطبق المسلم أولاً أو يدعو إلى حكم غير شرعي ولكنة أقرب من سابقه إلى الحكم الشرعي بنظر القائل به، ثم يتدرج في التطبيق أو الدعوة من حكم غير شرعي ولكنه أقرب من سابقه إلى الحكم الشرعي بنظر منه، ثم يتدرج في التطبيق أو الدعوة من حكم غير شرعي إلى حكم غير شرعي آخر أقرب، حتى يصل حسب رأيه إلى الحكم الشرعي.

ويعني كذلك أيضاً تطبيق أحكام شرعية والسكوت عن أحكام غير شرعية أخرى ريثما يصل مع الوقت
إلى التطبيق الكامل للشرع. 

وهذا التدرج غير مقيد بعدد ثابت من المراحل. وليس خاضعاً لقواعد منضبطة عند القائلين به. فقد يأخذ الحكم الواحد مرحلة أو مرحلتين أو ثلاثاً أو أكثر. وهذا التدرج يبقى للظروف والأوضاع أو تأثيرها الواضح في تحديد عدد المراحل، فقد تقل وقد تكثر، ووقت كل مرحلة قد يطول وقد يقصر.

وإن إطلاق فكرة التدرج قد يشمل أفكاراً متعلقة بالعقيدة كقبول القول ( إن الاشتراكية من الإسلام) أو (إن الديمقراطية من الإسلام). وقد تشمل أحكاماً شرعية كأن تلبس المرأة المسلمة لباساً يصل ثوبها فيه إلى ما تحت ركبتها بقليل ريثما يطبق في مرحلة لاحقة الحكم الشرعي المطلوب. وقد يتعلق بالنظام كالمطالبة بالمشاركة في الحكم، مع أنه حرام شرعاً وبحسب اعتراف القائلين به. لكنها عندهم مطالبة ليس مقصودة لذاتها بل للوصول إلى الحكم بالإسلام الذي هو الأصل والواجب في مرحلة لاحقة. أو قد يكون بالعمل على إيجاد بعض الأحكام الإسلامية والسكوت عن الأخرى على أمل أن تكثر حتى تطغى ثم تسود وهكذا... وقد تتعلق بالدعوة حين يدعى إلى كل هذا. فيلتزم المقتنع بالتدرج بهذا الأسلوب ويحاول أن يدعو الآخرين بحسبه. وقد يكون صاحب هذا الطرح من التقوى بحيث أنه من حيث الالتزام لا يقبل على نفسه أي تفريط، ولكنه يقبل لغيره من باب حرصه على الآخرين وحتى لا يرفضوا الدعوة إلى أحكام الإسلام، فأن يكونوا على شيء أفضل من أن لا يكونوا على شيء.

مبررات القائلين بالتدرج أو المرحلية، وردها:

لقد اعتمد أصحاب هذا الطرح على ما قالوا إنها مبررات تؤيد فهمهم هذا في التفكير وفي الدعوة الإسلامية. وكانوا بهذا المنحى الذي انتحوه قد ساقوا مبرراتهم سوق الشهود على ما يريدون. ولم يكونوا خاضعين للنص ودلالاته بل أخضعوا النص لما يريدونه كما سنرى. ومن هذه المبررات:

قولهم إن الله لم يحرم الربا دفعة واحدة. بل نزل تحريمه على دفعات ومراحل. قال تعالى: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ ررِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ.}
وقال {لا تأكلوا الربا أضعافاً..} وقال {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا..}. وقال{ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه}. وقال { وأحل الله البيع وحرم الربا}. ومن مجمل هذه الآيات فهم القائلون بالتدرج أن الربا كان مباحاً لدليل الآية الأولى. ومن ثم نزل تحريم أكل الربا المضاعف دون القليل في الآية الثانية. ثم نهي في الآية الثالثة عن القليل من الربا بدليل قوله تعالى{ و َذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. ومن ثم قالوا إن تحريم الربا بدأ بالتلميح لا بالتصريح بدليل الآية الرابعة حكاية عن اليهود. وأخيراً حرم الله الربا بعد هذا التسلسل وبعد هذه المراحل التي مر بها بقوله تعالى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}. إن الناظر في فقه هذه الآيات نظراً تشريعياً صحيحاً يجد أن القول بالتدرج هو أبعد ما
يكون من الصواب.

فالآية الأولى لا علاقة لها بالربا المحرم لا من قريب ولا من بعيد. وموضوعها هو الهبة والهدية. ومعناها أن من أعطى هبة أو هدية يريد ضعفها أو استردادها من الناس، فلا يربو عند الله، أي لا ثواب عليها عند الله ، أي لا ثواب عليها عند الله أما الصدقة فقد قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم {من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب. وان الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل} (رواه البخاري) . وكذلك قال ابن عباس {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً} . يريد هدية الرجل الشيء يرجو أن يثاب أفضل منه فذلك الذي لا يربو عند الله، ولا يؤجر صاحبه. ولكن لا إثم عليه. وفي هذا المعنى نزلت الآية ( نقله القرطبي) وقال ابن كثير – رحمه الله – في هذه الآية: إن من أعطى عطية يريد أن يرد عليه الناس أكثر مما أهدى لهم فهذا لا ثواب له عند الله. بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب، والشعبي. وهذا الصنيع مباح.

وقال ابن عباس: الربا رباءان (ربوان) فربا لا يصح يعني البيع. وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها.

أما الآية الثانية {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} . فقد نزلت تنهى عن أكل الربا المضاعف وهو ما كانوا عليه في الجاهلية. ولا يوجد فيها ما يدل على تقييد تحريم الربا.

ولقد قال المفسرون إن سورة البقرة وهي السورة التي نزل فيها تحريم الربا، هي أول سورة نزلت في المدينة. وسورة آل عمران، التي نزل فيها النهي عن الربا المضاعف، نزلت بعدها، وعليه ينتفي إن الله سبحانه قد أباح أكل الربا القليل. وعليه يكون ما ذكر في آية آل عمران ليس من قبيل التدرج بل جيء بها باعتبار ما كانوا عليه في العادة التي يعتاد عليها الكفار في الربا. وعليه فإن حكم الربا تحريمه في باديء الأمر.

أما الآية الثالثة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا }. فلا تعني أنه قد سمح للمسلمين شيء قليل من الربا ثم نهوا عنه. بل إن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم. فكانوا قد قبضوا بعضه وبقي بعض. فعفا الله عز وجل عما كانوا قبضوه وحرم عليهم ما بقي منه.

ويعضد ذلك قول الله تعالى {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}. وكذلك قول الرسول صلى الله وعليه وسلم {ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله. وأول ربا أبتدىء به ربا العباس بن عبد المطلب} (سيرة ابن هشام).

أما الآية الرابعة {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِل}. إن الربا المقصود في هذه الآية هو المال الحرام من الرشوة وغيرها الذي كان يأكله اليهود كما قال تعالى {أَكَّالُونَ لِلسُّحْت}. وليس المقصود بها الربا بحسب التعريف الشرعي.

وعليه فإن الربا حرام من أول تشريع. ولا يوجد ما يدل على أنه حرم على مراحل. وتعدد النصوص الواردة في الموضوع كان لوقائع معينة. ولا يوجد فيها ما يدل على التدرج.
قولهم إن الله عز وجل قد حرم الخمر على مراحل :

قال تعالى { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}. وقال تعالى{ لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ..}. وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إ ِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.

ومن مجمل هذه الآيات فهم القائلون بالتدرج أن الخمر كان مباحاً في بادئ الأمر بدليل الآية الأولى، ثم نزل تضييق الإباحة بقوله تعالى { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}. ثم نهي عن الخمر بعد هذا التضييق.

والناظر في هذه الآيات نظرة تشريعية لا يجد أي تدرج في التحريم. فالخمر لم يكن فيها حكم قبل تحريمها. أي أنها كانت متروكة على الإباحة، أي أن الشرع كان ساكتاَ عنها مع فعلهم لها حتى نزلت الآية الثالثة. ويؤيد ذلك ما حدث مع سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقد قال { اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فإنها تذهب بالمال والعقال} فنزلت {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } فدعي عمر – رضي الله عنه – فقرئت عليه، فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت { أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فدعي عمر فقرئت عليه. فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} فدعي عمر فقرئت عليه. فلم بلغ } فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ{ قال عمر انتهينا انتهينا [رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود.]

لقد ظل سيدنا عمر يسأل الله تعالى أن ينزل بيانا شافيا في الخمر الذي كان متروكا على الإباحة قبل نزول الآية الأولى المذكورة، وظل يسأل تعالى بالرغم من نزول الآيتين الأولى والثانية مما يدل على أنها ظلت على إباحتها حتى نزل التحريم في الآية الثالثة.

والنهي في الآية الثانية منصب على الصلاة وليس على الخمر. فهي آية متعلقة بالصلاة. والمدقق في فقه هذه الآية يرى أنها لم تنه المسلمين عن الشرب عند الصلاة بل نهت عن الصلاة في حالة السكر حتى يعلم المسلمون ما يقولون. ولو كان المسلم بعد نزول هذه الآية تفوح منه رائحة الخمر وهو يصلي، أو يحمل معه قربة من خمر، أو قد شرب من الخمر بالمقدار الذي لا يضيع معه عقله فلا شيء عليه.

إن الله سبحانه وتعالى ذم الخمر في الآية الأولى باعتبارها تجلب مضرة. ونهى عن الصلاة حال السكر في الآية الثانية. وحرم الخمر في الآية الثالثة. وهذا لا يقال عنه تدرج. إذ لم يحصل أن أحدا استحل شرب الخمرة بعد تحريمها أي بعد نزول آية المائدة، لا في عهد الرسول صلى الله وعليه وسلام ولا في عهد الصحابة ولا في عهد التابعين وتابعيهم، ولم تلحظ كتب الفقه لكبار علماء ومجتهدين الأمة بحث التدرج في تحريم الخمر. ولقد كانت الفتوحات الاسلامية قائمة على قدم وساق، وكانت تفتح البلدان، وكان يدخل الناس في دين الله أفواجا. ولم يراع المسلمون الفاتحون حداثة اسلام اخوانهم الذين دخلوا في الدين من جديد، ولم يسكتوا عن شرب الخمر ريثما يمروا في المراحل التي مر بها تحريم الخمر. مع أنهم كانوا بحاجة لو أن هذا الأمر يؤخذ بعين الاعتبار. على أن بحث التدرج هذا لم يعهد علماؤنا الأوائل الأفاضل، بل هو بحث مستجد أملته شدة الواقع وقساوة الظروف على حد قول بعض من تسموا بالعلماء وأرادوا أن يجعلوه منهجا في التفكير، لا يطال بعض الأحكام بل الدين كله. وصح حديث الرسول صلى الله وعليه وسلم { إن من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار} [رواه الترمذي وأبو داود].

والسؤال الذي يطرح نفسه كمخرج لدعاة التدرج هو: هل يجوز لنا أن نأخذ فيها با لحكم السابق بحجة التدرج بالأحكام؟

والجواب القطعي: لا. لأن حكم التحريم للخمر قطعي. فلا يجوز شرعاً الرجوع إلى الحكم السابق. لأننا نكون قد فعلنا ما لم يأمر به الله سبحانه، وهذا هو الذي عليه السلف والخلف. فللخمر اليوم حكم واحد، لا يتغير بحال من الأحوال، ولا يسقط الإثم عن شاربها.

قولهم بأن الشرع قد عالج أحكام الرق بطريقة التدرج. فهدا باطل لأن الله عز وجل لم يحرم وجود الرقيق بل أوجد منافذ له. وإذا عاد وجودهم فستعود أحكامه وسيعود وجود الرقيق ثانية.

قولهم بأن القرآن نزل مفرقا ومنجما. ولم ينزل دفعة واحدة مما يدل على التدرج. والجواب على ذلك أن الله عز وجل كان ينزل الأحكام بحسب الوقائع والأحداث لتثبيت القلوب عليها. فنزل أول ما نزل الإيمان وذكر الجنة والنار ثم الحلال والحرام. وليس في هذا أخذ لجزء من الإسلام وترك لجزء آخر. فقد كان المسلمون مسؤولين في حدود ما نزل. ولم تتعد مسؤوليتهم أكثر من ذلك. فعندما نزل الإيمان ولم تنزل الأحكام كان المسلمين مسؤولين عن الإسلام كله. ولكن على تفصيل وضحته النصوص الشرعية. فالأحكام الشرعية الفردية مسؤول عنها المسلمون على أي حال سؤاء بوجود الدولة الإسلامية أم لا. أما الأحكام الشرعية المنوطة بالدولة الإسلامية فقد تعلقت بالدولة. وهذا هو التفصيل الملزم للمسلمين وليس غيره. ولا عودة إلى الوراء.

والآن، وبعد استعراض: ماذا يعني التدرج، وماذا يشمل، وما هي مسوغاته عند القائلين به. ننتقل إلى بيان الرأي الشرعي الصائب، وبالطريقة الشرعية في التفكير.

أقول الرأي الصائب ولم أقل الرأي الأقرب إلى الصواب، لأن فكرة التدرج هذه ليست من الشرع ولا يجوز نسبتها إلى الشرع. والمسألة لا تتعلق بالتدرج: هل هو حكم شرعي أو لا، بقدر ما يتعلق بطريقة تفكير لا يقرها الشرع بحال من الأحوال.

ذلك أن للإسلام طبيعة تختلف جذريا عن غير. فطبيعة النظام الإسلامي أنه قائم على اتباع الوحي حصرا. بينما تقوم طبيعة النظام الوضعي على الابتداع الإنساني والخبرات البشرية والتي تبقى مهما قويت قاصرة عن تحديد المعالجات الصحيحة لمشاكل الإنسان.

والمسلم عندما يتقيد بالشرع عليه أن يجعل أساس تقيده الإيمان بالله تعالى. وإلا فلن يقبل منه التزامه وعندما يدعو غيره إلى الإسلام عليه أن يجعل أساس دعوته الإيمان بالله، وإلا فلن تقبل منه دعوته. فالمسألة تتعلق بالإيمان أولا، والالتزام الصحيح ثانيا.

وحتى يتغير المسلم ويغير الأنظمة تغييرا صحيحا وسليما يجب أن يهتم بالأساس الروحي: بإيجاده أولا ومن ثم تغذيته.فيسهل بعده الالتزام، بغض النظر عن مطابقته لواقع الناس أو طباعهم أو أهوائهم أو عدم مطابقته. وعدم اعتماد المسلم على الأساس الروحي في الالتزام يوقعه في الإثم إن لم يؤدي به إلى الكفر. وقيام الإسلام على الأساس الروحي أي الإيمان بالله لا يجعل هذا الحكم قريباً أو بعيدا إلا بقدر قربه أو بعده عن هذا الأساس.

والآن نأتي لنسأل من يقول بالتدرج: أين هو الأساس الروحي في هذه الدعوة. بل أين أمر الله به. وأين لجأ الرسول صلى الله وعليه وسلم، مع مسيس الحاجة إليه، سواء في مكة أم في المدينة؟

ألم يقل الرسول صلى الله وعليه وسلم لبني عامر بن صعصعة حين كان يطالب منهم النصرة { الأمر الله يضعه حيث يشاء} [سيرة ابن هشام] . وذلك عندما طلبوا أن يكون الأمر فيهم من بعده مع شدة الحاجة عنده لوجود من ينصر الدعوة. ألم يكون في الإمكان إجابتهم إلى طلبهم، ثم بعد أن يؤمنوا تتغير مطالبتهم؟ أم هي الدعوة الصادقة والأمر الرباني الذي جعله صادقا فيما يقول من غير مداهنة ولا مساومة، ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.

ألم يقل الرسول صلى الله وعليه وسلم لعمه أبي طالب عندما جاءه أن يخفف عنه وأن لا يحمله من الأمر ما لا يطيق، ألم يقل له: {والله ياعماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه} [سيرة ابن هشام] وهذا النص من الرسول صلى الله وعليه وسلم يفيد عدم قبوله بأدنى مساومة، وأعطى على ذلك أصدق مثل في دعوته. فلم يداهن ولم يهادن، ولم يساير، ولم يحاب، ولم يداج من بيدهم الأمور بل كانت دعوته صريحة جريئة تبعث الفكر الصادق الذي يدحض به الباطل ويجعله زهوقا.

ألم يأمر الله سبحانه المسلمين أن يهاجروا من المكان الذي لا يستطيعون أن يقوموا فيه بما أوجبه عليهم إلى المكان الذي يستطيعون، وجعل المكوث فيه محرما عليهم لقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا...} وقد نقل ابن كثير الإجماع على تحريم الإقامة حيث لا يتمكن المسلم من إقامة الدين.

ألم يبدأ الرسول صلى الله وعليه وسلم دعوته ب{لا إله إلا الله محمد رسول الله} وبدأ بها قومه. وكانت كذلك هي آخر كلامه من غير أي تغيير. فهل دعا إلى أقل منها في بادئ الأمر ثم تدرج بها؟ أم أنها كانت أول دعوته وآخرها.

ألم يقاتل أبو بكر {رضي الله عنه} مانعي الزكاة، ولم يأخذهم بالتمهل وتطييب الخاطر، قائلا قولته المشهورة: {والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه}. مع أن وضع المسلمين ك كان يومها يشهد حركة ارتداد وتمرد واسعين

هل عهد عن المسلمين الأوائل الذين حملوا الدعوة إلى الإسلام مثل هذا الفهم. وهل ساروا على منواله حين طبقوا الإسلام على البلدان المفتوحة التي تحولت دارها من دار كفر إلى دار إسلام؟ لم يراع المسلمون الأوائل أوضاع أهل هاتيك البلاد الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام. فلم يتركوهم يشربون الخمر ريثما تألف نفوسهم عدم شربها أو عدم التعامل بالربا أو عدم معاقرة النساء...

بل كانوا يدخلون في الإسلام كاملا فيمتنعون عن الربا وعن الزنا وعن الخمر وعن كل ما حرمه الله عليهم. وكانوا ينفذون الأحكام الشرعية المتعلقة بذمتهم سواء منها الفردية أم الجماعية، العينية أم الكفائية.

هل تناولت أمهات كتب الفقه الإسلامي هذا الموضوع، وهل ذكر فقهاؤنا المجتهدون الأوائل الموثوقون أدنى إشارة عن التدرج، ومعلم أن فقهاءنا تناولوا بالتفصيل كليات الشريعة وجزئياتها؟

إن الشرع بكليته يدل على وجوب تحلي الدعوة بالصدق واستقامة الطريق {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا. قَيِّماً...} والله أخبرنا أن الكفار يودون أن نداهنهم ونسايرهم ونتنازل عن الحق، ونقبل بأرباع الحلول وأنصافها بدءا بالكفار لقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ...} وانتهاء بالأحكام لقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}،{فَلا تُطِعِ المكذبينَ} وقد حذرنا ربُنا من الركون إلى الظالمين بقوله {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}.

إن الدعوة الصادقة إلى الإيمان الصادق تجعل التزام المسلم كاملا، ولو كان حديث عهد بالإسلام أو بالالتزام. وما علينا كحملة دعوة إلا أن نغرس الإيمان في النفوس، وأن نعتني به حتى يؤتي أكله على أطيب ما يكون التزاما وتقوى. والدولة الإسلامية حين تقوم لن تقوم على أناس فارغين أو مثقلين بالأفكار الغربية. ولن تقوم على أناس لم تعمل الدعوة فيهم ولم تؤثر عليهم وتجعلهم يقبلون. بل هي كما قلنا سابقا، يجب أن تقوم على رأي عام منبثق عن وعي عام يتقبل فكرة الإسلام وفكرة الحكم به. ولا حاجة للجوء إلى فكرة التدرج بحجة تقريب النفوس من الإسلام. ولا حاجة للرضوخ لضعف الإنسان أو مسايرة الواقع، لأن الله أمرنا أن تغير النفوس والواقع بالإسلام.

ولو عدنا إلى القرآن نستقرئ آياته لأدركنا أن الأمر فيه قطع، وأن التدرج هو من الأفكار الدخيلة الغريبة التي أدخلها من تسمى بالعالم زورا وبهتانا.

لقد كان الرسول صلى الله وعليه وسلم والمسلمون معه كلما نزلت آية بادروا بتنفيذها دون أدنى مهلة أو تأخير. وكان الحكم الذي ينزل يصبح واجب التطبيق بمجرد نزوله. وصار المسلمون بعد نزول قوله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} مطالبين بتطبيق الإسلام كله مطالبة كلية. سواء منها ما يتعلق بالعقائد أو العبادات أو الأخلاق، أو المعاملات، وسواء أكانت هذه الأحكام تتعلق بناحية الحكم والاقتصاد أم الاجتماع أم السياسة الخارجية، في حالة السلم أو في حالة الحرب.

وقوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي خذوا واعملوا بجميع ما آتاكم الرسول وانتهوا وابتعدوا عن كل ما نهاكم عنه. لأن(ما) في الآية من صيغ العموم فتشمل وجوب العمل بجميع الواجبات ووجوب الانتهاء والابتعاد عن جميع المنهيات. والطلب بالأخذ والانتهاء الوارد في الآية يفيد الوجوب بقرينة ما ورد في نهاية الآية من الأمر بالتقوى والوعيد بالعذاب الشديد لمن لم يعمل بهذه الآية.

وقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} كذلك فإنها آية تأمر أمرا جازما الرسول صلى الله وعليه وسلم والمسلمين من بعده بوجوب الحكم بجميع ما أنزل الله من الأحكام أمرا كانت أم نهيا. وكذلك فيها نهي للرسول صلى الله وعليه وسلم وللمسلمين من بعده عن اتباع أهواء الناس والانصياع لرغباتهم، وكذلك فيها تحذير للرسول صلى الله وعليه وسلم وللمسلمين من بعده أن يفتنه الناس وأن يصرفوه عن تطبيق بعض ما أنزل الله إليه.

وقوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.

وقوله تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}.

وقوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}.

في هده الآيات جعل الله من لم يحكم بما أنزل الله كافراً أو ظالماً أو فاسقاً. ولأن (ما) الواردة هنا من صيغ العموم فتشمل جميع الأحكام الشرعية التي أنزلها الله أوامر كانت أم نواهي.

من كل ما تقدم يتضح بشكل قطعي لا لبس فيه أنه يجب على المسلمين جميعاً أفراداً وجماعات ودولة أن يطبقوا أحكام الإسلام كاملة دون تأخير أو تسويف أو تدريج. وأنه لا عذر لفرد أو جماعة أو دولة في عدم التطبيق.

والتطبيق بالتدريج يتناقض مع أحكام الإسلام كل المناقضة. ويجعل المطبق لبعض الأحكام والتارك لبعضها آثماً عند الله فرداً كان أو جماعة أو دولة.

فالواجب يبقى واجباً يجب العمل به، والحرام يبقى حراماً يجب الابتعاد عنه. فالرسول صلى الله وعليه وسلم لم يقبل من وفد ثقيف أن يدع لهم صنمهم اللات ثلاث سنين، أو أن يعفيهم من الصلاة على أن يدخلوا في الإسلام، لم يقبل منهم ذلك، وأبى عليهم كل الإباء، وأصر على هدم الصنم دون تأخير، وعلى الالتزام بالصلاة دون تأخير.

والله قد جعل الحكام الذي لا يطبق جميع أحكام الإسلام أو يطبق بعضها ويترك بعضها الآخر كافراً إن كان لا يعتقد بصلاحية الإسلام أو لا يعتقد بصلاحية بعض الأحكام التي ترك تطبيقها. وجعله ظالماً وفاسقاً إن كان لا يطبق جميع أحكام الإسلام، أو لا يطبق بعضها لكنه يعتقد بصلاحية الإسلام للتطبيق.

والرسول صلى الله وعليه وسلم أوجب قتال الحاكم وإشهار السيف في وجهه إذا أظهر الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان. أي إذا حكم بأحكام الكفر التي لا شبهة أنها أحكام كفر، كثيرة كانت هذه الأحكام أم قليلة، لما ورد في حديث عبادة بن الصامت: {...وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان} (رواه مسلم) .

وعليه فلا تساهل ولا تدرج في تطبيق أحكام الإسلام. إذ لا فرق بين واجب وواجب ولا بين حرام وحرام، ولا بين حكم وآخر. فأحكام الله جميعاً سواء. ويجب أن تطبق وأن تنفذ دون تأخير أو تسويف أو تدريج. وإلا انطبق علينا قول الله تعالى:{ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض. فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب...}.

وليس هناك من لأي مسلم في عدم تطبيق أي حكم شرعي حاكماً كان أو فرداً عادياً إلا إذا كانت هناك رخصة شرعية وردت في النصوص الشرعية. وعدم القدرة يعتبر رخصة شرعية في حالة العجز الحقيقي المحسوس (أو الراجح على الظن رجحاناً قوياً)، أي حالة الاضطرار الحقيقي، مثل حالة المكره إكراهاً ملجئاً، أو مثل حالة عرض الرسول صلى الله وعليه وسلم ثلث ثمار المدينة على قبيلة غطفان، أو مثل قبول الخليفة للتحكيم مع البغاة، أو مثل إباحة الميتة للمضطر الذي يخشى الهلاك.

ونحن، تُجاه ما نراه من هذا الطرح، نجد أن هذه الفكرة قد وجدت في رؤوس أصحابها، نتيجة لضغط الواقع، وللتفلت من هذا الضغط راحوا يتصيدون لها الأدلة تصيداً لتكون مبرراً ومسوغاً لهم للدعوة بحسبها. إذ أن الفكرة وجدت أولاً ومن ثم أوجدوا الدليل الشرعي الذي أولوه بحيث يخدم هذه الفكرة. وهذه هي بداية الانحراف. وكنصيحة للخروج من هذا المنحى: يجب أن يخلع المسلمون القائمون على فكرة التدرج ثوب الضعف الذي يلبسونه، وأن يتصلوا بالشرع اتصال الواثق بربه المؤمن به إيماناً راسخاً بأنه هو الذي يدبر الأمر ويغير الأوضاع، ويمنح النصر لمن يستحقه، حتى يواجه بهذا الإيمان شدة الواقع وقساوة الأوضاع. فيستعلي بإيمانه ويجعله منطلق الدعوة ومحط رحالها. وسنرى أن ذلك كله سينعكس على المدعوين تقيداً صحيحاً والتزاماً قويماً. من غير ما حاجة إلى التدرج.

إن الدعوة إلى التدرج هي دعوة لغير الإسلام، وهذا حرام. وهذا يجعل غير المسلم، أو المسلم المقصر الذي يُدعى بناء على هذا الأساس متردداً في قبول ما يعرض عليه، وهذا التردد يتحمل مسؤوليته الداعي إلى التدرج، لأنه لم يعرض عليه الإسلام، ولبعد طرحه عن الأساس الروحي القائم على الإيمان بالله الخالق المدبر، والذي بناًءً عليه يؤخذ الحكم الشرعي أو يترك. وهذا يجعل حجة الله قائمة على هؤلاء المسلمين الداعين بدل أن تقوم حجتهم على غيرهم.

والدعوة إلى التدرج فيها تدخُل وتحكُم في التشريع حين تجيز للإنسان تطبيقاً مجزأً بحجة أنه لا يقوى على التطبيق الكامل الفوري. ونحن أُمرنا أن لا نقدم بين يدي الله ورسوله ولا نؤخر. فالذي يعالج الإنسان هو ربه العليم الخبير الذي يعلم ما خلق. فكيف يسمح المسلم لنفسه حين الدعوة للتدرج بالتدخل في عملية التشريع هذه. والصحيح هو أن تنحصر مهمة الداعي في تنفيذ وتبليغ المعالجة وليس في وضعها.

والدعوة إلى التدرج تعطي الداعي طريقة تفكير فاسدة يدعو الناس على أساسها. وهذه الطريقة التي سيحملها للآخرين إذا تأثر بها المدعو فإنها تفسد عنده طريقة التفكير التي يجب أن تتغير كما يجب أن تتغير الأفكار الخاطئة، علماً أن طريقة التفكير تأتي في المقدمة في عملية التغيير، إذ أنها تسبق في أهميتها تغيير الأفكار. ونحن لا نضمن تغير الأمة تغيراً موثوقاً حتى نغير لها طريقة تفكيرها ولو بشكل عام. وستحل هذه الطريقة الفاسدة التي يفكر ويدعو بحسبها محل الطريقة الصحيحة.

ليست هناك تعليقات: