الجمعة، 10 أكتوبر 2008

الوسطية




هل تؤخذ أحكام الإسلام باختيار الوسط بين حكمين ؟
لم ترد كلمة ( وسطية ) أو كلمة ( وسط ) وصفا للإسلام أو لأحكام الإسلام في القران الكريم أو السنة النبوية , وإنما كثر استعمال هذا الوصف في العصر الحديث , استغلالا لبعض النصوص ووضعها في غير موضعها , وفهمها فهما مغلوطا واستنتاج نتائج خاطئة منها , ومن ثم تعميمها .
وقد تم توظيف هذا المصطلح ( الوسطية ) لتبرير فتاوي ومواقف لعدد من المشايخ والمتصدرين للفتيا في العالم الإسلامي , احلوا بها الحرام , وحرموا بها الحلال , وما الفتوى بحل بعض انواع الربا ومنع الجهاد , وإباحة قتال المسلم مع الكفار لأخيه المسلم إلا أمثلة قليلة على سوء استغلال هذا المصطلح الحادث .

ودعاة (الوسطية ) يروجون ( بكسر وشد الواو ) لهذا المصطلح على اعتبار انه مدح للاسلام واحكام الاسلام , ويجعلونه في مقابلة الغلو والتفريط ,اعتماد على ما استقر في نفوس الناس من رفض لهما , فيتجهون لقبول هذا الاطلاق , ويالفون نتائجه شيئا فشيئا.

تقول هذا جناء النحل تمدحــه ===== ولو شئت قلت ذا قيء الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما ===== والحق قد يعتؤيه سـوء تعبير

وحتى لا يقع المسلمين فريسة للاستخفاف بعقولهم من المتلاعبين بالنصوص , نبين معنى هذا المصطلح وواقعه وننزله منزله الذي يستحقه , وذلك بما يلي :

أولا : الوسطية نسبة إلى الوسط , والوسط في اللغة له عدة معاني , جاء في القاموس المحيط: ( الوسط محركة من كل شيء أعدله وكذلك جعلناكم امة وسطا أي عدلا خيارا ...) (.. وسط الشيء محركة ما بين طرفيه كأوسطه فإذا سكنت كانت ظرفا أو هما فيما هو مصمت كالحلقة فإذا كانت أجزاءه متباينة فبالاسكان فقط أو كل موضع صلح فيه بين فهو بالتسكين والا بالتحريك ...) وقد جاءت كلمة وسط ومشتقاتها في القران الكريم والسنة المطهرة بهذه المعاني اللغوية , ومن ذلك قوله تعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) [ البقرة : 143 ] .... وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم معنى كون امة الإسلام امة وسطا , وذلك في ما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: يا نوح. فيقول لبيك وسعديك، فيقول اللـه: هل بلغت قومك ؟! فيقول: نعم.. فيدعى قومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقول اللـه جل وعلا من يشهد لك يا نوح، فيقول نوح : يشهد لي محمد وأمته.. يقول المصطفى فتدعون فتشهدون بأنه بلغ قومه وأشهد عليكم فذلك قول اللـه تعالى (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ))
والوسط العدل
قال ابن حجر في الفتح قوله : ( الوسط العدل ) هو مرفوع من نفس الخبر , وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم ), وهذه الآية هي التي يستند إليها القائلون بان أحكام الإسلام وسط بين طرفين , ومنها ينطلقون في الترويج لرأيهم , والمدقق في الآية الكريمة لا يجد فيها أي تطرق لوصف الإسلام بالوسطية بالمعنى الذي يذهبون إليه , وإنما هي وصف للأمة الإسلامية التي كرمها الله تعالى بان جعلها شاهدة على الناس بان الرسل قد بلغو رسالات ربهم , والشاهد لا تقبل شهادته إلا إذا كان عدلا , وهذا ما فسرها به صلى الله عليه وسلم حجة .
ولا يقال بان وسطية الأمة مستمدة من وسطية الإسلام , ولهذا قلنا بان الإسلام دين الوسطية , لا يقال هذا , لان المقصود بوسط الواردة في الآية غير ما يقصدون بالوسطية فوسط في الآية معناها العدالة , وفي إطلاقاتهم ما بين طرفين , والفرق بين الأمرين ظاهر فلا يستدل باحدهما على الآخر لمجرد اتفاق المبنى.

والعدالة التي جعلها الله تعالى صفة لازمة لأمة الإسلام , وهي مقتضى إتباعهم للإسلام وتقيدهم به , وعدم إتباعهم لأهوائهم , وقد روى مسلم قال (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) فمخالفة أحكام الإسلام تنفي العدالة الأزمة لإداء الشهادة .,
ثانيا : يقولون الدعاة إلى للوسطية : ( إننا استقرينا أحكام الإسلام فوجدنا قائمة على التوسط والاعتدال , روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى".
وروى النسائي عن إبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وعن أبي هريرة رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).
وروى ابن ماجة عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( غداة العقبة لابن عباس هات اللقط لي فلقط له ثلاث حصيات من حصا الخذف وقال بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين إنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ), وهذه الأحاديث تبين أن الوسطية هي المنهج الذي يحث النبي صلى الله عليه وسلم على السير به , والذي كان يسير عليه صلى الله عليه وسلم في دعوته وفي سلوكه .) وهذه مغالطة كبيرة وذلك لان قول عائشة رضي الله عنها ( بين أمرين ) يعني من أمور الدنيا , يدل عليه قولها ( ما لم يكن إثما ) لان أمر الدين لا إثم فيها ,كما أن أيسر الأمرين ليس هو أوسطهما قطعا , فهو دليل على أن التوسط بين أمرين أو خيارين ليس من هديه الدائم صلى الله عليه وسلم , وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا الدين يسر ..) لا يعني أن اختيار الحالة الوسط مطلوب لأنها حالة وسط , بل الحديث يأمر بالالتزام بأحكام الإسلام كما هي دون زيادة أو نقصان وهذا ( فسددوا وقاربوا ) أي ألزموا السداد وهو الصواب , واعملوا بالأكمل فان لم تستطيعوا فقاربوا, وهذا دليل بات على أن المطلوب هو الالتزام بالإسلام كما هو بغض النظر عن كون الأمر المطلوب هو أوسط حالاته أو أعلاها أو أدناها , وهنا مكمن الداء عند دعاة الوسطية لأنهم يجعلونها مطلوبة لذاتها , ويجعلونها نهجا ثابتا في جميع الحالات , ويبنون الاحكام عليه , وهذا يجعل الاحكام تابعة للأهواء والعقول , وليست مأخوذة من الإسلام .
ثالثا : يستدل دعاة الوسطية بقوله تعالى : (" والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" (67 سورة الفرقان).
وقوله سبحانه وتعالى ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقد ملوما محسورا) على أساس أن الآيتين تجعلان الإنفاق المحمود هو حالة وسط بين حالتين . ومن يمعن النظر يجد أن الإنفاق المذموم وهو الإسراف معناه الإنفاق في الحرام قل أو كثر , فالتحريم ليس مسلطا على كم المنفق قليل أم كثير , وإنما على ما انفق من مال فيه حرام أو حلال , وكذلك التقطير هو ترك الإنفاق في واجب سواء كان قليلا أم كثيرا ,فمن أين جاء فيهم الوسطية من الآية , وقد ينفق المسلم جل ماله في الجهاد أو الصدقة أو حمل الدعوة الإسلامية , فهل يكون مذموما؟, وكذلك النهي عن كل البسط , فالمنهي عنه ليس هو بسط اليد في الإنفاق وإنما كل البسط ,أي التجاوز في الإنفاق بحيث ينفق في حرام , ويفهم من الآية أن كثرة الإنفاق ليست حراما , وإنما الحرام الإنفاق في الحرام قل أم كثر .

وعلى هذا لا دليل لدعاة الوسطية في الآية . ومع هذا فان الأمر باختيار حالة وسط في أمر معين لا يمكن تعميمه على غيره ,كما انه لا يصلح أن يكون علة للأحكام حتى يقاس عليه . وعلى هذا فان دعوى الوسطية في الإسلام بمعنى اختيار الحالة الوسطى بشكل دائم لا أساس لها من الصحة , ولا يجوز أن تبنى عليها الاحكام الشرعية , فتكون مصدرا للترجيح أو لاستنباط , ثم يوصف المخالفون بالتطرف والغلو , وتعرض الاحكام الناتجة عن مجرد بحث عقلي لا مساس له بالإسلام على أنها الإسلام الوسط , كان للإسلام ثلاثة أحوال يتخير منها الناس ما يروق لهم .

رابعا : فان قيل إننا نعني في الوسطية الاعتدال , وهو المطلوب شرعا , فنقول الاعتدال لغة : توسط حال بين حالين في كم أو كيف , وكل ما تناسب فقد اعتدل , وكل ما أقامته فقد عدلته . واعتدال استقام واستوى . هذه هي معاني الاعتدال لغة فان كان المعنى بالاعتدال الالتزام بالأحكام الشرعية والاستقامة عليها والإتيان بها على الوجه الذي شرعه الله , فلا داعي للإتيان بألفاظ تحتمل معاني كثير والاختباء خلفها , وترك الألفاظ الواضحة . فما هي الفائدة من اصطلاح لا يتفق على معناه , ويستغله بعض المنتسبين للعلم لتحريف أحكام الإسلام والتلاعب بها , ألا نخشى أن ينالنا نصيب من قوله تعالى : ( وان منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ).
أيها المسلمون :
إن كل من يقرا القران الكريم ويقرع سمعه قوله تعالى ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلمو تسليما ) وقوله سبحانه : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنه إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) يناى بنفسه عن الخوض في أحكام الله وآياته , ويقف عند حدود ما انزل الله ,ويعلم انه عبد الله , وانه في اشد الحاجة لشرع الله ودينه ولو خالف هواه , ولهذا فإننا ندعوكم للتخلص من كل فكر وقول يراد منه تمييع أحكام الإسلام , ويراد به فضكم عن سبيل الله بشعارات وأسماء شتى وقد اتضح الأمر لكل ذي عينين .
التطرف :
التطرف ليس له دلالة شرعية , لان هذه اللفظة لم ترد في النصوص , ولا استعملها فقهاء الإسلام ,ولذا فانه ليس لها سوى الدلالة اللغوية فحسب ,فإذا أردنا أن نستعمله في الشرع لقلنا : إن التطرف هو مجاوزة الحدود التي وضعها الشرع , أي مخالفة أحكام الإسلام .

هذا هو التطرف , فالذي يزيد في عدد ركعات الفرائض, أو يطوف طواف العمرة عشر أشواط , أو يحرم أكل العنب لان منه تصنع الخمر , أو يوجب على نفسه لبس الخشن من اللباس تقربا إلى الله , أو يحرم العمل السياسي ويقصر الإسلام على العقائد والعبادات والأخلاق وبعض المعاملات أو يمتنع عن الزواج لأنه يلهي عن العبادة وقيام الليل , كل هؤلاء يعتبرون متطرفين ومتنطعين لأنهم جاوزوا حدود الأحكام الشرعية المشروعة .

وليس من التطرف تمسك الشخص أو الجماعة برأي أو حكم في أي شان من شؤون الحياة , وفي كيفية حمل الدعوة الإسلامية ما دام الحكم أو الرأي أو الفكر مأخوذ باجتهاد صحيح , وليس من التطرف الدعوة لجهاد الكفار وإخراجهم من بلاد المسلمين, فالمسلمون جميعا ملزمون بالتقيد بأحكام الإسلام ,والإتيان بها كاملة وفق ما شرعه الله لعباده دون زيادة فيها أو نقصان , والوقوف عند حدود الله فيها وعدم تجاوزها حتى لو ناقضت مصالحهم وأهوائهم وعاداتهم , ورغبات حكامهم , وقوانينهم ودساتيرهم , فدين الله أحق أن يتبع , وحدود الله يجب أن تصان , وأحكام الإسلام يجب أن تطبق بالحكم , وان يدعى لها , وان يتكتل المسلمون عليها وان يعملوا لإعادتها إلى الحياة . قال تعالى : " واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما انزل الله إليك ."

وكل من يقوم بذلك فهو ملتزم ومتمسك ومعتدل , أما من يخالف هذا هو المتطرف والمخالف والإثم , قال تعالى:" تلك حدود الله فلا تعتدوها , ومن يتعدى حدود الله فأولئك هم الظالمون ".

فعلى المسلمين أن ينتبهوا لهؤلاء المضلين المحرفين المغرضين , وان لا يخدعوا بأقوالهم ولا بما يلقونه إليهم بل يلقونه في وجوههم , ويتمسكون في كتاب الله وسنة رسوله , فهما الحكم والفيصل , لا يزوغ عنهما إلا هالك .

ليست هناك تعليقات: