الاثنين، 18 يناير 2010

النهضة صفحة 13-16


العقيدة أو القاعدة الفكرية

عرفت العقيدة بأنها : فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة ، وعما قبل الحياة وعما بعد الحياة وعن علاقتها بما قبلها وعن علاقتها بما بعدها .

ولكن هل تكفي هذه الفكرة الكلية لأن تكون قاعدة فكرة ، تبنى عليها كافة الأفكار التي يمكن أن تجابه الإنسان في الحياة ، وهل يمكن أن تكون هذه الفكرة شاملة لكل جوانب الحياة وليست مقتصرة على جانب دون آخر ؟ وهل حملت هذه الفكرة الأسس التي تجعلها موجودة في واقع الحياة ؟ وبعبارة أخرى هل حوت هذه العقيدة كيفية لإيجادها في الحياة ، وكيفية لتنفيذها والمحافظة عليها ، أي هل اشتملت على طريقه تجعلها حية في الوجود ، وتحافظ عليها ، وتبين كيفية معالجتها لمشاكل الإنسان ، وكيفية لحملها لبني البشر ؟

إن الإجابة عن هذه التساؤلات بالإيجاب هي التي تجعل هذه العقيدة بحق قاعدة فكرية ، تنبثق منها كافة المعالجات لمشاكل الحياة وتبنى عليها كافة الأفكار التي يمكن أن يوجدها الإنسان . ولها كيفية معينة في تنفيذ معالجاتها ، وفي الحفاظ عليها وفي حملها لبني البشر أي طريقة لإيجادها في واقع لحياة . فإذا كانت كذلك كانت عقيدة عقلية انبثق عنها نظام حياة الإنسان على هذه الأرض وفي الوقت نفسه وضعت الأسس لتنفيذها لهذا النظام ، وإيصاله لكل إنسان ، من حيث إنها لم تقتصر على جانب دون آخر ولم تنظر لفئة من الناس دون أخرى فقد كانت نظرتها للإنسان من حيث هو إنسان ، ولم تقتصر على قطر من الأقطار فقد كانت نظرتها للوجود بكامله ولم تقتصر على الوعظ والإرشاد والوصية بل اتخذت كيفية معينة ليتمكن الإنسان من
إيجادها في واقع الحياة ، وينفذ ما جاءت به من نظم وما انبثق عنها من معالجات . وبهذا يستطيع الإنسان نفسه أن يعيش بها ولها ويقود غيره من بن الإنسان بها . أ نقاد بها ويقودها ويقود غيره بها ، ومن هنا كانت كذلك قيادة فكرية .

هذا ما يشترط في العقيدة حتى تصبح قاعدة فكرية تبنى عليها جميع الأفكار ، وتؤدي إلى نهضة حقيقية ، كما أنه عليها تتوقف صحة النهضة ، فإن كانت هذه العقيدة – الفكرة الكلية – صحيحة ، كانت النهضة صحيحة وان كانت خاطئة كانت النهضة الناشئة عنها نهضة خاطئة . ولهذا كان لا بد أن تكون هذه الفكرة الكلية – العقيدة – فكرة يقينية ، توافق الفطرة وتقنع العقل . ليمتلئ قلب الإنسان طمأنينة ويشعر بالسعادة .

نعم إنه من الممكن أن يكون هناك عقائد قاصرة ، مع أنها فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة ولكنها اقتصرت على جانب واحد من حياة الإنسان من حيث علاقته بما قبل الحياة أو ما بعد الحياة ، أو أنها اقتصرت على جانب وضع المعالجات ،ولم تبين كيفية تنفيذ هذه المعالجات ، فبقيت إما فردية ، أو فلسفية ، أو إنها اقتصرت على فئة من الناس أو قوم معينين دون غيرهم ، مثل هذه العقائد ولو أنها فكرة كلية إلا أنها لا تصلح لأن تنهض الإنسان من حيث هو إنسان ، أو تجلب السعادة لبني البشر .
فالعقيدة اليهودية مثلاً، فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة ، وعن علاقتها بما قبل الحياة ، وعن علاقتها بما بعد الحياة ، إلا أنها اقتصرت على بعض المعالجات دون بعض ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنها اقتصرت على قوم معينين ، فهي عقيدة خاصة ببني إسرائيل أي هي عقيدة قومية ، فهي إذن لا تصلح لبني البشر ما وجدوا ، وفي أي عصر ، أو إلى أي عرق انتموا فهي عقيدة قومية محدودة بفترة من الزمن ، فهي قاصرة ولا تصلح.

وأما العقيدة النصرانية ، فإنها وإن كانت فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة ، إلا أنها اقتصرت على مجموعة من الوصايا في تنظيم بعض الجوانب من حياة الأفراد ، كما قصرت أيضاً عن وضع كيفية للمحافظة عليها ، أو لتنفيذ تلك الوصايا التي جاءت بها . إذ اقتصرت على علاقة الإنسان بخالقه في العبادات وفي بعض المطعومات ، وفي بعض قضايا الزواج ، كما أنها أوصت الأفراد بعدم ممارسة بعض الأعمال السيئة – وهي ما يسمى بالوصايا العشر – ( لا تسرق ، لا تزن ، لا تقتل ، الخ ) إلى غير ذلك من الأمور البسيطة . وتركت الفرد يباشرها بنفسه ، ولم تجعل له كيفية معينة لتنفيذها ، أو كيفية للمحافظة على العقيدة نفسها ، خصوصاً وهي تقول كما يزعم أصحابها – ( أعط ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله ) .

كما أن هناك العديد من العقائد والأفكار الفلسفية التي شملت بنظرتها الوجود بكامله ، ونظرت للإنسان من حيث هو إنسان ووضعت معالجات لمشاكل الإنسان ، ونظمت علاقاته ، ولكنها قصرت عن إيجاد طريقة لتنفيذ هذه المعالجات والأفكار ، مثل جمهورية أفلاطون ، والمدينة الفاضلة – الفارابي – أو غير ذلك ، ولذلك فإن مثل هذه العقائد والأفكار العامة لا تصلح أن تكون أساساً للنهضة ، أو طريقاً موصلاً إلى نهضة ، لأن النهضة وكيفية الوصول إليها أو السير في طريق النهوض يقتضي ما يلي : -

أولاً : - وجود فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة وعما بعد الحياة وعن علاقتها بما قبل الحياة وعن علاقتها بما بعد الحياة الدنيا . حتى يستطيع الإنسان أن يحدد معنى وجوده في هذه الحياة ، وبالتالي يحدد مفاهيمه عن الحياة الدنيا ،فيتحدد سلوكه في حياته الدنيا بناء على هذه الفكرة الكلية ، وما يبنى عليها من أفكار وما ينبثق منها من معاني ومفاهيم ومعالجات .

ثانياً : أن تشتمل هذه الفكرة الكلية على معالجة مشكلة الفرد الأساسية . وهي تحديد معنى وجوده في الحياة ، كما تشتمل على معالجات مشاكله جميعها ، بحيث تنظم له علاقاته جميعها ، أي تنظم أفعاله وتصرفاته في هذه الحياة ، فلا تتركه في دوامة من التناقضات ، ولا نهباً للمخاوف والوساوس والقلق والاضطراب . خوفاً على نفسه ، أو خوفاً على جنسه أو خوفاً على كرامته أو بعيداً عن مأمنه أي إنها وضعت له أسس المعالجات لكافة مشاكله في المرحلة الزمنية التي سيقضيها الإنسان على هذه الأرض ، أي مرحلة الحياة الدنيا .

ثالثاً : أن تكون هذه العقيدة فيها قابلية الانتشار لبني الإنسان بحيث أنها لم تقتصر على قوم دون آخرين { يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }الحجرات (13) وذلك لأنها فكرة كلية شاملة ، فهي في الأصل نظرت إلى الإنسان من حيث هو إنسان ثم هي فكرة ، أي إنتاج عقلي ، فهي حكم العقل على مجموعة ما يقع عليه الحس ، فإذن لا بد أن تكون عقلية – أي تخاطب عقول البشر ، وتجعل العقل مناط التكليف .
وبما أنها كذلك فلا بد أن تشتمل على وجوب نشرها والعمل بها ولها ، حتى يصح أن تسمى قاعدة فكرية وقيادة فكرية ينقاد الإنسان بها ويقودها لينقاد غيره بها كذلك ، أو يقودهم بها .

رابعاً : - أن تحمل في ذاتها كيفية المحافظة عليها وبقائها صافية نقية ، فلا يصح أن يعتريها غبش يخفي صفائها ، ولا أن يدخل فيها ما ليس منها فيضيع نقاؤها . فلا بد أن تكون عقلية يقينية بعيدة عن الظن ، بعيدة عن كل شيء لم يقم الدليل اليقيني على صحته { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً }النجم(28). ولم تكتف بالتوصية في ذلك بل فرضت عقوبات على من يحاول تبديلها ، أو المس منها ، أو أخذها بالظن .

خامساً :- أن تتضمن هذه العقيدة كيفية لتنفيذ ما جاءت به من معالجات ، وطريقة تتمكن من إيجاد هذه المعالجات في واقع الحياة ، فلا تكتفي بجعل معالجاتها وصايا أو توصيات وللفرد أن يأخذها إن شاء أو يرفضها ، بل لا بد من طريقة لهذه المعالجات تحتم وجودها في حياة الفرد والناس والمجتمع شاءوا أم أبوا .

فهي حين توصي بالمحافظة على النفس الإنسانية جعلت طريقة تنفيذ ذلك قتل القاتل ، وحين أمرت بالمحافظة على العقل جعلت طريقة تنفيذ ذلك جلد السكران ، وحين قالت بالمحافظة على كرامة الإنسان جعلت كيفية تنفيذ ذلك جلد القاذف وحين أوجبت حفظ النسل أي حفظ النوع الإنساني جعلت عقوبة الدية على الجب والتعقيم والاخصاء ، وحين قررت عدم اختلاط الأنساب جعلت عقوبة القتل الشنيع – الرجم – على الزاني المحصن للحفاظ على نوع الإنسان ونسبه ، وحين أمرت بالمحافظة على أموال الناس وممتلكاتهم ، جعلت طريقة تنفيذ ذلك قطع يد السارق . وحين أرادت بعث الطمأنينة في النفوس ، وإشاعة الأمن والاستقرار في المجتمع ، جعلت عقوبة من يعبثون بأمن الناس وحياتهم القتل ، أو الصلب أو تقطيع الأطراف من خلاف وحين قررت المحافظة على العقيدة جعلت القتل عقوبة المرتد . وحين أوجبت تنفيذ هذه الأحكام جميعها وإيجاد فكرتها في واقع الحياة أو جبت على الناس إنابة فرد منهم ليقوم بالتنفيذ ، أي أوجبت مبايعة خليفة لتنفيذ ذلك وجعلت عقوبة الخارج على الخليفة أي على الدولة القتل . وهكذا فإنها لم تترك معالجة إلا وجعلت كيفية معينة لتنفيذها تباشرها الدولة .

وباختصار ؛ فإنها لم تكتفي بوضع معالجات للناس تبين فيها للإنسان كيف يصرف أفعاله ويشبع حاجاته وجوعاته ، بل وضعت كيفيات معينة لتنفيذ كل معالجة من هذه المعالجات ، أي أنها لم تكتف بكتابة الوصفة الطبية للمريض ، وتركت له تناول العلاج بنفسه ، بل تصرفت كالمستشفى المنظم الذي يشرف فيه الممرض على إعطاء الدواء للمريض طوعاً أو كرهاً . حتى في تصرفات الفرد الذاتية – علاقة الفرد بنفسه ، أو علاقته بربه – بل لم تكتف بوضع المعالجة بل أوجبت تنفيذ هذه المعالجة . فعدم تناول المريض معالجة تعبدية كالصلاة مثلاً ، فإنها أوجبت على القائمين على التنفيذ ،إيقاع عقوبة زاجرة عليه حتى يتناول تلك المعالجة ، وحين لا يلتزم بمعالجة خلقية أو غذائية فإنها كذلك فرضت من العقوبة ما يكفي لزجره وسلوك الطريق القويم والسيرة الحسنة .

سادساً :- وكما قلنا إنها فكرة كلية تناولت الإنسان من حيث هو إنسان ، ووجدت من أجل سعادته وإنهاضه ، فإنها تبنت وجوب حملها للناس ودعوتهم لاعتناقها .فخاطبت عقولهم لإدراك حقيقتها وأقامت الحجج والبراهين على صحتها ، إلا أنها لم تترك ذلك وصية ينفذها فرد إن شاء بل جعلت لها كيفية معينة تبين كيف تحمل هذه الفكرة للناس ، والطريق التي يلمس الناس بها تلك الحقيقة دون ما حاجب يستر عنهم رؤيتها أو يشوه صورتها مثلاً :-

حين أمر الله تعالى المسلمين بحمل الدعوة للناس { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}سبأ(28) لم يكتفي بالوصية فقط من مثل قوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}النحل(125) أو من مثل قوله تعالى { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين }فصلت(33) .كانت الدعوة فكرية بتكتل حزبي سار به رسول الله مبيناً كافة الخطوات والمراحل التي تقتضيها الدعوة للوصول بالفكرة للتطبيق والتنفيذ حتى أقام دولة الإسلام وباشر تنفيذ المعالجات ثم انتقل لمرحلة جديدة تقتضي خلاف ذلك .

لم يكتف بهذا ولم يقف عند هذا الحد . بل أمر رسوله والمؤمنين بكسر الحواجز المادية التي تقف في وجه الدعوة . لأن طريقة نشر الدعوة في تلك المرحلة تقضي بفرض نظام الإسلام على الناس ، وتطبيق أحكامه عليهم ، ليدركوا صدق فكرته ويدركوا عدالة تشريعه دون ما حاجز أو تشويه ، أو إكراه . ولذلك تتابعت الآيات الكريمة التي أمرت المسلمين بالجهاد وقتال الكفار اللذين يقفون حائلاً بين المسلمين وتطبيق الإسلام على الناس ، { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير}الحج(39) وقوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . فإما مناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها }محمد(4) ، سواء من آمن بالله ورفض الإيمان بنبوة محمد كاليهود والنصارى ، أو من كفر بالله وكفر بنبوة محمد ، كمشركي العرب والمجوس وغيرهم وذلك من أجل تطبيق الإسلام عليهم ليروا صدق فكرته ، ويبصروا عدالته من غير إجبار أو إكراه وبعيداً عن التضليل والحقد والحسد . قال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من اللذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }التوبة(29) .

ومن مثل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين }التوبة(123) . وكما كانت سيرته طيلة حياته التي تعتبر تنفيذاً عملياً لهذا المبدأ . فقد ورد عنه ما يلي :_ عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : (( كان رسول الله إذا أمر أميراً على جيش أو سرية ، أوصاه في خاصته بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيراً ، ثم قال اغزوا باسم الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدة ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، أدعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها ، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم الذي يجري على المسلمين ، ولا يكون لهم في الفيء أو الغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا ، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم )).رواه مسلم وابن ماجة والدارمي.

كما ورد في سيرته حين هاجر من مكة إلى المدينة ودعا وجهاء المدينة وممثلي الناس بمن فيهم زعماء اليهود وأملى الدستور الأول على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، مبيناً فيه العلاقات العامة بين المسلمين بعضهم مع بعض ، وبين المسلمين وغيرهم ، على مرأى ومسمع من وجهاء القوم ، ولم يكتفي بهذا بل طلب منهم إقراره وتوقيعه ، وجعل فيه احتكام الناس إليه بمن فيهم اليهود مع أنهم أهل كتاب . إلا أنه حين غدر يهود بنقضهم المعاهدة - وهذا شأنهم – حكم عليهم الرسول بأحكام تناسب ما قاموا به من نقض للعهود ، منهم من قتلهم كبني قريظة ومنهم من أجلاهم كبني النضير وامتدت دائرة سلطانه بالفتح ، سواء من أرض مشركي العرب كمكة أو من أرض يهود كخيبر وحين فتح خيبر بالقوة أبقى أهلها تحت حكمه وسلطانه وجعلهم على نخيلهم وأرضهم بناءاً على عقد المساقاة ، ولم يجبر أحداً منهم على الإسلام كما أرسل جيشه لمحاربة الروم مع أنهم نصارى أهل كتاب ، في معركة مؤتة .

هذه سيرته يتضح منها أمران : الأول طريقة إيجاد الإسلام في واقع الحياة بإقامة دولة الإسلام ولها أحكامها الخاصة بها .
الثاني : - طريقة تنفيذ الإسلام ومعالجاته وأحكامه ونشره للناس كافة .كما يتضح من أحكام الأمر الأول ، التكتل ، والدعوة ، والعمل السياسي ، ومقارعة الحجة بالحجة ، وتبيان مفاسد ما عليه الناس ، ومهاجمة أئمة الكفر ورؤوس الفساد . أي الصراع الفكري والكفاح السياسي . ويتضح في الأمر الثاني : - رعاية الشؤون وإقامة الحدود وحماية الثغور ، وبسط الإسلام بالجهاد ليبصر الناس بأم أعينهم ، صدق الدعوة وعدالة التشريع . أي إنابة المسلمين عنهم من يتولى هذه الأمور التي ليست من اختصاص الفرد بل هي من اختصاص السلطان أي الخليفة .

هذه هي الشروط الستة في كل فكرة كلية يراد إنهاض الناس بها . وباختصار هي مبدأ يقوم على عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام ، وأنه فكرة تبين العقيدة والمعالجات وحمل الدعوة ، وطريقة تبين كيفية المحافظة على هذا المبدأ وكيفية تنفيذ ما جاء به من معالجات وكيفية حمله للناس . وهذا هو الأساس الصحيح الذي تقوم عليه النهضة وما سوى ذلك فهو ترقيعات بالية ومظاهر خادعة وتضليل كاذب .

بقيت مسألة :
هل أن العقائد أساساً للنظم و مصدراً للقوانين المسيرة لسلوك الإنسان ؟ وهل أجابت عن الأسئلة الخمسة التي تتكون عليها العقيدة ؟

تكوين فكرة عن الوجود – الكون والإنسان والحياة – هل هي أزلية أم مخلوقة لخالق؟ وما الذي قبلها ؟ وما الذي بعدها ؟ وما علاقتها بما قبلها ؟ وما علاقتها بما بعدها ؟ هذه الأسئلة التي تفرض نفسها على كل مفكر يريد أن يشق طريقه في الحياة ، وبحسب الإجابة عليها يكون سلوكه في الحياة . أي عرف معنى وجوده فيها وكيف يسير وإلى أين يسير.

نعم إنها تساؤلات ، وأجابت العقيدة على هذه التساؤلات إجابات أوضحت السبيل للإنسان لمعرفة معنى وجوده وكيف يسير ، إنها بينت له علاقته بما قبل الحياة وبما بعد الحياة وهذا يعني بيان ما عليه أن يفعله في الحياة ولذلك أجابت العقيدة المادية على هذه التساؤلات وقالت : بأن لا إله والحياة مادة وجعلت المادة أزلية وهي بتطورها مصدر لكل شيء فالفكر والعقل هما من إنتاج المادة ،فالمادة هي مصدر التفكير وعلاقات الإنتاج تحددها وسائل الإنتاج ووسائل الإنتاج هي نتاج للتطور المادي ، وبالتالي فإن علاقات الإنتاج تتطور تبعاً للتطور المادي أي تبعاً لتطور وسائل الإنتاج .

ومن هنا كانت المادة – أي عقيدتهم – بتطورها الدائم حسب زعمهم ، هي مصدر تفكيرهم ومنبع نظمهم وقوانينهم فالحجر والفأس والتراكتور والسيارة والطائرة والصاروخ هي التي تفرض نظماً للعلاقات بين الناس. هذا بزعمهم وما تحتمه العقيدة التي آمنوا بها واعتنقوها .

وأما العقيدة الرأسمالية ، أي الديمقراطية فقد أجابت على تلك التساؤلات بفصل الدين عن الحياة وقالت بحكم الشعب بالشعب وللشعب ، أي : جعلت الإنسان هو مصدر كل شيء فهو الذي يضع نظمه وقوانينه ويحدد خط سيره في الحياة فينظم علاقاته ويشبع جوعاته ويسد حاجته حسب رغبته وهواه ، ولا دخل لأحد فيه فلا بد إذن من إعطائه حريته حتى يتمكن من ممارسة إرادته ، ومن هنا كان الفرد هو مصدر النظام والقوانين ولهذا قالوا الشعب مصدر السلطات والشعب هو الذي يسن قوانينه ويضع تشريعاته ومن هنا كانت العقيدة الديمقراطية – أي الرأسمالية – مصدر النظام والأساس الذي ينبثق عنه.
وأما العقيدة الإسلامية فإنها تقول بأن لهذا الوجود خالقاً خلقه وهو الله تعالى : وإن لهذه الحياة بداية وأن لها نهاية ، وبعدها حساب على ما اكتسبه على هذه الفترة الزمنية التي قضاها في الحياة ، إذن فلا بد أن يكون تنظيم العلاقات بين الناس وتنظيم حياة الإنسان وضبط أفعاله وتصرفاته بناءاً على أوامر هذا الخالق المدبر فكان الوحي هو الوسيلة لتبليغ الناس ما أراد بهم ربهم وما أراده لهم عن طريق الرسل – كما اقتضت سنته – فكان النظام والقانون الذي يسير علاقات الناس وينظم سلوكهم وتصرفاتهم منبثقاً من نفس العقيدة وهي ( الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ) .

فالرسول ، بلغ الناس ما جاءه به الوحي من عند الله فكان القرآن الكريم والأحاديث الشريفة – السنة – هما ما جاء به الوحي وهما جزء من العقيدة – كتبه ورسله – وقد تضمنتا نظام كامل ومجموعة كبيرة من الأحكام الشرعية المسير لسلوك الفرد والمنظمة لحياة المجتمع ، والمبينة كيفية تنفيذ هذه المعالجات وإيجادها في واقع الحياة وحملها إلى الناس كافة وكانت أسساً صالحة لاستنباط أحكام لما يستجد من مشاكل في حياة الناس .

بعد بيان ما يصلح أن ينهض بالأمة ، ويرتقي بالإنسان في مدارج الكمال ، وبعد تبيان كيفية الوصول إلى ذلك أي تبيان طريقة التفكير المنتجة شريطة أن تكون فكراً مستنيراً يجلو غوامض الأمور ويوضح معالم الأشياء والوقائع ، ليحدد للإنسان إمكانية إقدامه على العمل أو إحجامه عنه ، بناءاً على القواعد الأساسية ، والمقاييس الدقيقة التي عليه أن يستعملها أثناء العملية الفكرية . بعد هذا كله لا بد من معرفة الواقع الذي يراد معالجته والتفقه فيه ، حتى نتمكن من تحويله إلى ما نريد أو
نتخذ حياله ما يناسبه من موقف .


ليست هناك تعليقات: