الاثنين، 18 يناير 2010

النهضة صفحة 24- 25



الأمراض الجانبية

نعم ، ليت الأمر وقف عند حد إخلال أو إتلاف العناصر الأساسية من مقومات المجتمع ،ولكن الأمر تعداه إلى أمراض جانبية لا تقل خطورة عن الأمراض الأساسية ، لأنه لا يمكن أن يصار إلى المعالجة الأساسية ، إلا بزوال هذه الأمراض الجانبية ، لأنها تشكل حاجزاً منيعاً يحول دون الوصول إلى جوهر المشكلة. والذي أدى إلى تفاقم هذه الأمراض عاملان .

العامل الأول مخلفات العهد الهابط ، أما العامل الثاني فهو زوال الدولة الإسلامية وهيمنة دول الغرب على عالمنا الإسلامي برمته، وحكمه حكماً مباشراً، أو غير مباشر، ولم يتوقف تأثير هذين العاملين ولم يقتصر على جانب واحد من حياتنا . بل كان له الأثر الأكبر بل الأثر كله على المقومات الأساسية لمجتمعنا . فبسبب هذين العاملين الأساسين سكت المسلمون على إزالة دولتهم وتمزيق مجتمعهم ، وانتهاء وحدتهم. وبسبب هذين العاملين تسربت إلى المجتمع بعض الأفكار الفاسدة، وظهرت بعض مشاعر الوطنية والإقليمية والقومية. وبسبب هذين العاملين تمكن الغرب من إزالة دولة الإسلام وإبعاد الإسلام عن واقع الحياة .
وبسبب هذين العاملين جعل الغرب كعبة المثقفين ومحط أنظارهم فضبعوا بثقافته وتبنوا عقيدته أو كادوا إلا من رحم ربي وبسبب هذين العاملين أمسى العالم الإسلامي خاضعاً لأنظمة الكفر ولعملائه الذين أقامهم على رقاب الناس ينفذون أوامره ويرعون مصالحه ويحقون أهدافه. ولذلك كان لا بد من الإحاطة بهذه الأمراض الجانبية إحاطة كاملة والعمل على إزالتها حتى نتمكن من الوصول إلى جوهر المشكلة في نفس الوقت الذي تبذل فيه الجهود في معالجة الأمراض الأساسية .

العامل الأول :- مخلفات العصر الهابط :- أثر العصر الهابط على الأفكار التي يقوم عليها المجتمع .
وصل المجتمع الإسلامي إلى الدرك الأسفل من الانحطاط حين قام أبناؤه بمساعدة الكفار على إزالة دولتهم ، وتمزيق مجتمعهم في الحرب العالمية الأولى . وقد بدأ انحداره السريع بعد الغزو المغولي ولم تستطع الحركات المتعددة والتغييرات الكثيرة التي طرأت عليه من إنهاضه أو على الأقل وقف انحداره ذلك لأنها لم تدرك معنى النهضة ولم تعرف أثر الأفكار في حياة الناس بل زادت في الطين بلة حين فصلت الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية وقالت بغلق باب الاجتهاد فجمدت العقول وأبعد التفكير المبني على قاعدة ثابتة وساد الأمة بكاملها عقلية التقليد والاتباع .

وبهرت عيون الناس أضواء الثورة الصناعية في أوروبا ، ولم تعتن الدولة أو القائمون على أمرها بالجانب الفكري ، أو الثقافي في حياة الناس ظناً منها أن القوة العسكرية هي النهضة ومفتاح الرقي فصبت جل اهتمامها في الجانب العسكري ، فما إن توقفت فتوحاتها في أواسط أوروبا حتى وجدت نفسها غرضاً يرمى وفريسة تطارد ولم تنتبه وهي في قوتها العسكرية إلى الأمراض الداخلية التي فتكت بها . ومن أبسط الصور على مدى الانحطاط الفكري وعقلية التقليد تلك الصورة التي نأخذها عن خطباء المساجد وهم باعتبارهم القادة الفكريين في الأمة فقد كان خطباء المساجد في خطبة الجمعة التي تعتبر الموجه السياسي للرأي العام، كانت هذه الخطب تقرأ من كتاب ابن نباتة المتضمن خطباً بعدد أسابيع السنة وبحسب المناسبات ففيه خطب بمناسبة شهر رمضان ، وفضائل الصوم ، وفيه خطبة الجمعة اليتيمة في آخر رمضان وخطبة ليلة القدر وخطب أشهر الحج وعرفة وفضائلها ، وعاشوراء والهجرة ومولد النبي والنصف من شعبان وهكذا على مدار السنة . فإذا كان هذا حال المفكرين في الأمة والموجهين لها، فكيف يكون حال الأمة الموجهة بهذا التوجيه ؟ ولئن سألتهم عن شيء قالوا ، ما ترك الأوائل مقالة لقائل.

وأما أثر العصر الهابط على المشاعر فلغياب الأفكار الحية المعالجة لمشاكلهم والمنبثقة عن عقيدتهم فقد ساد الأمة مشاعر متعددة متناقضة ومخالفة في كثير من الأحيان لعقيدتها من مثل تقديس الأضرحة ومقامات الأولياء والصالحين ، والأئمة حين أضفوا عليهم من الصفات ما يفوق مكانة الأنبياء والمرسلين ، حتى قالوا إن النبي لم يصل لمنزلته بجهده ، بل هو مرسل من الله ولا فضل له فهو يوحى إليه أما هؤلاء فقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه بجهدهم وما قاموا به من رياضة وتقرب وأعمال (كم من أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره ) ( يا عبدي اعبدني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون ) إلى غير ذلك من الأقوال التي شدت الناس إلى التوسل بأضرحة هؤلاء الأئمة أو الأولياء أو تلامذتهم ومريديهم . كما انتشرت بعض المشاعر الصوفية المتأثرة بالفلسفة الهندية التي تدعوا إلى العزوف عن الدنيا وتعذيب الجسد لتسمو أرواحهم في السماء . وظهر في هذا العصر فئة المشايخ والدراويش حتى قالوا من لا شيخ له فالشيطان شيخه .

ومن مثل هذه المشاعر الكثير حتى تبلد إحساس الناس وفقدوا شعورهم بالعزة بالإسلام والعيش به ومن أجله ومن أجل رفعته وقوة سلطانه أو على الأقل فقد الإحساس بوجوب التغير وانتشرت مشاعر القدرية الغيبية انتشاراً فظيعاً واعتبروا أن ما حصل لهم وما هم فيه هو قدرهم وعليهم الرضى بما قسم الله كما انتشرت فكرة انتظار المهدي الموكل إليه أمر التغيير فلا بد من أن تملأ الأرض فسقاً وجوراً حتى يسارع ظهوره كما بدأت فيه بعض مشاعر الوطنية أو القومية أو المذهبية أو الطائفية .
وأما أثر العصر الهابط على النظام أو على القائمين عليه .

فإن النظام لم يجر عليه أي تغيير يذكر عدة قرون ولو أنه كان بداية لتغيير بعض القواعد الأساسية فيه وإدخال بعض المفاهيم الغربية عنه وكان السبب في ذلك هو الضعف الشديد الذي طرأ على أذهان المسلمين في فهم الإسلام لإهمال شأن اللغة العربية التي هي لغة الإسلام واللغة التي لا يفهم الإسلام إلا بها. كما أدى غلق باب الاجتهاد إلى أخذ أحكام النظام نصوصاً جامدة قصرت عن متابعة مشاكل العصر ومعالجة النظام لها . مما جعل القائمون على النظام يشعرون أنهم بحاجة إلى بعض القواعد والقوانين لمعالجة مشاكل العصر . وقد ساعد في ذلك تلك الفتوى التي أصدرها شيخ الإسلام والقائلة (( إن ما لا يخالف الإسلام فهو من الإسلام )) مما أدى إلى إدخال العديد من القواعد والتشريعات من الفقه الروماني أو الفرنسي إلى أنظمة المسلمين بحجة أنها لا تخالف الإسلام فهي من الإسلام .

مع أن الإسلام هو ما جاء به محمد رسول الله وحياً من عند الله . إما لفظاً ومعنى وهو القرآن وإما معنى عبر عنه الرسول بألفاظ منه أو بأفعال منه أو بسكوت عن عمل في معرض النطق. وما يمكن أن ينبثق عن تلك النصوص – قرآناً أو أحاديث- من نظم وما يستنبط منها من أحكام( هذا هو الإسلام) وليس هو ما لا يخالف الإسلام . فالعبرة في مصدر الشيء لا في موافقته أو مخالفته فجواز الملكية الفردية في النظام الرأسمالي لا يعني أنها من الإسلام فهي لا تخالفه لأنه يبيح التملك فحرية الملكية في النظام الرأسمالي حكم كفر ونتاج عقلي . وإباحة التملك في الإسلام حكم شرعي دليله النص الذي جاء به الوحي فالعبرة إذن في مصدر الشيء لا في منطوقه ولا في مدلوله ولا في النتيجة التي يوصل إليها ولا في موافقته أو مخالفته .

هذا من حيث الأثر على النظام . أما من حيث أثره على القائمين على النظام . فإنه واضح من تصرفاتهم وتطبيقهم للنظام . فإنهم من هذا المجتمع نفسه بما فيه من أمراض وعلل فلم يكونوا أحسن حالاً من جمهرة الناس من حيث الفهم والوعي وإدراك المسؤولية حتى الأتقياء والمؤمنون منهم فقد اتجهوا إلى الناحية العسكرية والقوة المادية هذا في أحسن أحوالهم جاهلين ما يجب أن يكون وراء كل قوة عسكرية من نهضة فكرية ووعي على الواقع حتى تكون الأمة كلها وراء كل قوة عسكرية وبذلك عزلت الدولة والنظام عن المجتمع وأصبح النظام والقائمون عليه وأعوانهم في نظر الأمة شيئاً والأمة شيء آخر ثم ازدادت العزلة حتى تحولت إلى عداء وكراهية وبادلهم الحكام وأعوانهم هذه الرؤية حتى أمست حقيقة وأخذ كل منهما يتصرف مع صاحبه بناء على هذه النظرة فالحكام وأعوانهم أرادوا فرض احترامهم وتقديرهم وتنفيذ أوامرهم بقوة السلاح مستعملين كل وسائل الضغط والإرهاب فأساءوا في تطبيق كليات النظام وجزئياته وأرهقوا الأمة بما يشاءون من ضرائب فعاشت الأمة في ذعر من حكامها يقول الشخص لرفيقه أنج سعد فقد هلك سعيد .

إن هذا الواقع الذي سار عليه القائمون على النظام سهل على من يريد هدم هذا الكيان وجعل الأمة تبحث عمن تلتف حوله لهدم هذا الكيان معتبرة ذلك سبيل النجاة وطريق الخلاص .ولذلك وبمساعدة أولئك النفر الذين تلقوا ثقافتهم في لندن وباريس والذين باعوا أنفسهم للشيطان طمعاً في حكم أو تحقيقاً لمنصب أو نوالاً لمصلحة استطاع الغرب أن يحرك الأمة بواسطة هؤلاء وأن يهدم الخلافة ويمزق الأمة ويحتل بلاد المسلمين مصوراً للناس أنه هو المخلص لهم من ظلم الأتراك وجبروتهم وقطع أوصال البلاد ليقيم فيها دولاً كرتونية هزيلة وينصب عليها عملاءه وصنائعه حكاماً ينفذون له ما يريد ويحققون له ما يبتغي.


ليست هناك تعليقات: