الاثنين، 18 يناير 2010

النهضة صفحة 33-37



المعاناة

بسم الله الرحمن الرحيم { والعصر ، إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر }العصر.

وبعد نزول الوحي على رسول الله لأول مرة ، ذهبت به زوجته خديجة رضوان الله عليها ، إلى عمها ورقة بن نوفل ليسأله عما رآه وسمعه ، قال ورقة : إن هذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى بن عمران ، ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك ، فأنصرك نصراً مؤزراً ، قال رسول الله :(( أو مخرجي هم يا عماه ، قال ورقة :نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي )).
وقال :(( ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا حيث دار ، ألا إن السلطان والقرآن سيفترقان ، فالزموا الكتاب ألا وإنه سيولى عليكم أمراء ضالون مضلون ، إن اتبعتموهم أضلوكم وإن خالفتموهم قتلوكم ، قالوا فماذا نفعل يا رسول الله ، قال كما فعل أصحاب عيسى شدوا على الخشب ونشروا بالمناشير فو الذي نفس محمد بيده لميتة في سبيل الله خير من حياة في معصيته ))(رواه أبو نعيم في دلائل النبوة.) .

كما قص الله سبحانه وتعالى من قصص الأنبياء على رسوله مبيناً له ما لاقى إخوانه من الأنبياء من الصد والتكذيب والإيذاء ، وما كانت مواقف أولي العزم منهم ، وذلك ليثبت به فؤاد رسول الله ، ويقول له :{ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل }الأحقاف(35) ، فالناس هم الناس ، وعملية التغير عليهم تلاقي ما لاقى سلفها ، من إهمال ورد وتكذيب وصد ومحاربة بل إننا لنكاد نسمع من الناس اليوم ما قاله قوم نوح عليه السلام :{ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ، وما نرى لكم علينا من فضل }هود(27). هو نفس الكلام الذي يسمعه حملة الدعوة اليوم .

ولهذا كان على العاملين لإنهاض أمتهم ورفعة شأنها وتغيير ما في نفوسها حتى يغير الله واقعها {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }الرعد(11) . كان على هؤلاء العاملين أن يوطدوا العزم ويشحذوا الهمم لمجابهة خصومهم ، ودحر أعدائهم مقتدين برسول الله متوكلين على الله . ولقد قال الله تعالى في كتابه العزيز ، مذكراً المؤمنين بما لاقوا من عنت ، وما جابهوا من أخطار { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ، فآواكم وأيدكم بنصره }الأنفال(26)، نعم عليهم، أي مريدي النهضة أن يضعوا في حسابهم ما لاقى الرسول الله وأصحابه الكرام . كيف كان ابتلاء الله لهم ، وكيف كانت مواقفهم . مجاهدة النفس وبناؤها . وحملها على ما فرض الله عليها من علم وعمل ، علم بما تريد ، وما تدعو له ، وعمل لإيجاد ذلك في واقع الحياة مع ما في ذلك من جهد ومثابرة ،ومع ما فيه من محنة وابتلاء فإعداد النفس ووضعها في مركز المسؤولية والقيادة لهذه الأمة يحتم معرفة ما تتطلبه المسؤولية وما يلزم للقيادة .

إن من أوجب ما تطلبه المسؤولية والقيادة مسؤولية مباشرة عن ألف مليون مسلم ومسؤولية مستقبلية عن العالم بكامله ، ليتحقق قوله تعالى :{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا }البقرة(143).
إن من أوجب ما تتطلبه المسؤولية هو العلم بما تريد وإلا فكيف يكون المسؤول مسؤولاً عن قوم ولا يدري ما هي مسؤوليته ؟ وكيف يمكن أن ينقاد القوم لهذا المسؤول وهو لا يدري لأي اتجاه يقودهم؟ وصدق من قال (( إن الأمة لا تعطي قيادتها لجاهل ولا جبان )) ولا يعني ذلك أن أبقى ساكتاً حتى ألم بالعلم كله بل المسألة أن أعقد العزم على معرفة ما يلزمني وما أحتاجه في مسؤوليتي والعمل بما بلغني أو عرفت فقد كان رسول الله يبلغ ما سمعه من الوحي وما أوحى له به ربه ، غير منتظر استكمال المعرفة وتمام العلم وقد استمر في الدعوة والتبليغ والتنفيذ ثلاثاً وعشرين سنة ، فقد كان يبلغ الآية أو السورة أو الحديث بمجرد فراغ الوحي منه . فقد قال عليه الصلاة والسلام (بلغوا عني ولو آية))(رواه البخاري والإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر) وقال: ((نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه ))(رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي وابن حبار في صحيحه عن ابن مسعود).

هذا من حيث الفرد وأما من حيث الكتلة فإنه ومن أوجب واجباتها كذلك أن تعي ما تريد وأن تدرك مسؤوليتها وتعرف مكانتها وإمكانية قيادتها لشبابها وللأمة بل وللعالم حين توجد في مركز المسؤولية الفعلية وهذا يحتم عليها وضع المخطط الهندسي كاملاً لما تريد لتربي شبابها على أساسه وتأخذ ثقة الأمة وقيادتها بموجبه مدركة لما يجري في العالم من حولها من وقائع وأحداث ، لتضع لها الحلول المناسبة والمعالجات الصحيحة فالأحداث والوقائع لا تتوقف . واتخاذ المواقف تجاهها أو وضع الحلول والمعالجات لها أمر لازم اقتداء لما جاء في القرآن الكريم وتنزله على الوقائع والأحداث وكشفه لما يحاك من خدع ومؤامرات وتصديه فكرياً لما يجري من أمور حتى ذاك الذي نهى صاحبه عن الصلاة نزلت الآية الزاجرة له { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة }العلق(16)، ولذا كان عليها أي على الكتلة أن تبدي رأيها في الأحداث والوقائع وتتخذ منها ما يجب من المواقف لا تأخذها في الله لومة لائم فلا تمالئ حاكماً ولا تتزلف إلى زعيم ولا تسكت على منكر { ودوا لو تدهن فيدهنون }القلم(9) .

هذه هي مجاهدة النفس بالعلم والصبر على المكاره مثل ما حصل مع بلال الحبشي ضرب بلال الحبشي رضوان الله عليه مرة وما أكثر ما ضرب وعذب فضاقت نفسه وذهب لرسول الله شاكياً وقال يا رسول الله لو دعوت عليهم فسكت رسول الله وسار به حتى استند إلى جدار الكعبة وقال له يا بلال إني لأرجو الله أن تسير الجارية بغنمها من اليمن إلى الفرات لا تخشى عليها إلا الله والذئب . درس يلقنه رسول الله لأصحابه للارتفاع إلى مستوى المسؤولية والقيادة . أما قوله لآل ياسر (( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ))مختصر سيرة ابن هشام ص(57) وترد سمية أم عمار بقولها كأني أراها أمامي يا رسول الله فهذا درس آخر ومن نوع آخر وهو احتمال الأذى والصبر على المكاره .

المعاناة في معاداة الولد والأهل والأقارب :
وظلم ذوي القربى أشد مضاعفة على النفس من وقع الحسام المهند

إنها سنة الله في خلقه فقد قص الله على رسوله ما حدث مع الأنبياء السابقين فهذا سيدنا نوح ابتلي بزوجته وولده { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما }التحريم(10)، وقال الله تعالى :{ ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين }هود(42)، وقص قصص الأقوام وما فعلوا بأنبيائهم وقص عليه ما فعلت بنو إسرائيل وقتلهم أنبيائهم بغير حق ،{ ولن تجد لسنة الله تبديلا }فاطر(43). ورسولنا وقدوتنا ماذا لاقى من عشيرته من الابتلاء ؟ هذا عمه أبو لهب وامرأته ، وهذه قريش ومواقفها ، وهاهم العرب جميعاً يرمون عن قوس واحدة ، وهذا دعاؤه حين عودته من الطائف: (( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل في غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك ))(سيرة ابن هشام ج1ص420) أو كما قال .

وبنظرة بسيطة إلى صحابته الكرام ومعاداة أولادهم ، أو آبائهم أو أمهاتهم أو أقاربهم لهم خير مثال ، فهذا أبو بكر ابتلي بأبيه وابنه ، وهذا أبو عبيدة ابتلي بأبيه ، وهذا سعد ابن أبي وقاص ابتلي بأمه، وهاهم جمهرتهم يهاجرون إلى الحبشة فراراً بدينهم ، ليس لهم ناصر من أهليهم وأقاربهم إلا الله وكفى بالله وكيلا . هذا ما على الكتلة وشبابها من معاناة وصبر على مجابهة الأهل والأقارب ، وما يجب عليهم اتخاذه من مواقف ، حيال هذا الأمر ، فلا يتوقع الفرد أو الكتلة المؤازرة أو التأييد والنصرة إلا بعد الامتحان والثبات .

المعاناة والصبر تجاه الناس :

من البدهي أن يقف الناس موقف عداء وتصد لكل فكر جديد يريد أن يغير عليهم نمط عيش ألفوه ، وطراز حياة اتخذوه بالإضافة إلى تغيير كامل في العلاقات التي تربطهم بعضهم ببعض ويتكون على أساسها مجتمعهم وبنيت عليها مصالحهم ونظمهم ، وتوحدت على ذلك أحاسيسهم ومشاعرهم ولنا في رسول الله أسوة حسنة . فلم تكن دعوته للوحدانية وعبادة الله هي التي أثارت غضب قريش والعرب ، فقد كان غيره يدعو لذلك مثل جماعة الحنيفية ، كورقة بن نوفل ، والقس بن ساعدة الإيادي الذي كان يخطب في سوق عكاظ ويقول ( يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه إن لله ديناً خيراً من دينكم الذي أنتم عليه ) فلم تعاده العرب ولم تتصد له لأنه لم يتعرض إلى العلاقات القائمة بينهم ، ولا إلى مصالحهم ونمط عيشهم وحياتهم ، ولكنهم حين سمعوا من رسول الله يقول لهم: (( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )) وسمعوا منه ما جاء به من قرآن أدركوا أبعاد ذلك ، وتبين لهم أنه إنما يريد تغيير وجهة نظرهم للحياة ، وهدم ذلك الكيان ، وبناء كيان جديد على أسس جديدة ، ونظرة للحياة جديدة ، وفي هذا القضاء على مصالحهم وانتفاء زعامتهم ، وجعل الحاكمية لله أي لغيرهم .

ومن هنا كانت ثورتهم ومعاداتهم وعملهم للقضاء على هذه الدعوة ، وكانت المجابهة بين الرسول وصحبه من جهة ، والقريش والعرب من جهة ثانية ، وكان تعذيب المستضعفين أمثال بلال وعمار وياسر وسمية وعبد الله بن مسعود وغيرهم ، وكانت هجرة القادرين عليها ، أمثال جعفر وعثمان وعبد الله بن جحش وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين ، وما أجمل ما وصف به رب العالمين هذه المعاناة والصبر عليها بقوله :{ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره }الأنفال(26) ، فقد بلغ الحال أن يخشى الفرد على نفسه ، وتخشى الكتلة على نفسها من أن يتخطفها الناس ويزيلوها من الوجود ، وما تحالفت عليه قريش من مقاطعة ، وحبس الرسول ومن معه ، ومن أيده في شعاب مكة ، في شعب أبي طالب إلا ضرب من ضروب المقاومة ، وأسلوب من أساليب التصدي .

وعليه ؛ فإن أية كتلة أو حزب يعمل على تغيير المجتمع ، أو تغيير العلاقات القائمة بين الناس ، وتغيير النظام الذي ينتظم تلك العلاقات ، وتغيير وجهة نظر الناس في الحياة ، وبناء مجتمع على أفكار ومشاعر جديدة ، ويسير علاقات الناس بأحكام جديدة ويمنع نظاماً ينظم العلاقات بأسس وقواعد جديدة ، ويقوم على رعاية الناس بنمط جديد ، ويوجد عندهم وجهة نظر معينة تبين لهم معنى وجودهم في الحياة .

إن أية كتلة أو حزب يقوم على هذه الأمور عليه أن يضع في حسبانه أن الإهمال والمقاطعة وقطع الأعناق ، وقطع الأرزاق ، هي بعض ما يلاقي في نضاله وعمله لإيجاد فكرته في واقع الحياة { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}الزمر(10) وهنا يأتي وصفهم { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر }العصر(3)، أو قوله تعالى :{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عينهم تريد زينة الحيوة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا }الكهف(28).
{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }الزمر(10).

المعاناة مع النظام والحكام :

إن الهدف هو إيجاد الإسلام في واقع الحياة ، أي جعل أحكام الإسلام هي المسيرة لسلوك الفرد ، والمنظمة لعلاقات المجتمع ، وأن تكون السيادة للشرع ، وأن يحمل الإسلام للعالم حتى تقوم الحجة على الناس ، وأن يخرج الناس من الظلمات إلى النور . هذا معنى إيجاد الإسلام في واقع الحياة . وهذا يعني بناء أمة ، وتغيير ما عليه المجتمع ، وإقامة دولة تتولى تطبيق الإسلام في الداخل وحمله دعوة إلى العالم .

إن هذه العملية وإن كانت تقوم على بناء أمة ، وتغيير ما عليه المجتمع من أفكار ومشاعر ، فتبين فساد العلاقات القائمة بين الناس ، سواء منها العلاقات القائمة بين الأفراد بعضهم مع بعض ، أو العلاقات القائمة بين الناس والهيئة التنفيذية – السلطة – أو فساد العلاقات بين أجهزة الهيئة التنفيذية وصلاحية كل جهاز . إن هذه العملية وإن كانت تقوم على ذلك بالفكر فقط ، وبوضع الخط المستقيم أمام الخط الأعوج ، إلا أن ذلك يزعج القائمين على تنفيذ النظام ، ويثير حفيظتهم ، ويدفعهم لمحاولة القضاء على تلك الدعوة بشتى الأساليب وأقلها السجن ، لأنهم يدركون أن وجود هذه الفكرة في الأمة إنما تعني زوال ملكهم وضرب مصالحهم .

إن فرعون مضرب المثل عند الناس بالطغيان والجبروت ، لما قام به من ظلم وتجبر ولما لحق الناس منه من إذلال واستخفاف، حتى طلب من الناس عبادته { ما علمت لكم من إله غيري }القصص(38) ووصفه رب العالمين أنه كان من المفسدين ، وأنه كان طاغية إلى غير ذلك – إلا أن هذا الفرعون الطاغية الجبار قبل مقارعة الحجة بالحجة ، والبرهان بالبرهان . قال تعالى على لسان فرعون { فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى }طه(50). عند ذلك التفت فرعون إلى خاصته ومستشاريه وقال :{ إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى }طه(63)، وقال له مستشاروه { أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحَّار عليم}الشعراء(37) ، فالتفت فرعون إلى موسى وقال له : { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى . قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى }طه(50) . فما أروع هذا الحوار الذي ورد في سورة طه بين موسى عليه السلام وهذا الطاغية .

سبحان الله إن هذا الفرعون الموصوف بالطغيان والجبروت يقبل بمقارعة الحجة ويقبل البرهان على مرأى ومسمع من الناس . فإن كان مثل هذا من يوصف بالظلم والجور والتعسف فبماذا نصف القائمين على رقاب الناس في هذه الأيام . الذين لا يقبلون نقد أي حكم أو قانون ، أو نظام ينظم علاقات الناس ، وما جزاء من يفعل ذلك إلا السجن والتعذيب أو القتل أو التشريد ، هذا هو الواقع الذي يتحتم على الكتلة العاملة مجابهته . وليس هناك أي طريق آخر يمكن أن يؤدي إلى بناء الأمة ، وإصلاح المجتمع وتغيير النظام ، وإيجاد الفكرة في واقع الحياة . ذلك لأن المجتمع إنما يقوم على العلاقات الدائمة بين الناس ، وانتقاد أي علاقة إنما يعني انتقاد النظام القائم ، وانتقاد النظام القائم يعني العمل على إزالته ، والعمل على إزالة النظام بنظر الحاكم جريمة ، وفاعلها بنظر القانون مجرم يستحق العقاب ، وعملية تغيير ما عليه المجتمع من علاقات تقضي بوجوب إظهار فساد العلاقات ، وفساد النظام . ولهذا وجبت المعاناة والصبر ، ولهذا كان الأجر عظيماً والثواب جزيلاً (( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى حاكم ظالم فقتله )) وهل أعظم أجراً وأجزل ثواباً من مصاحبة سيد الشهداء – حمزة بن عبد المطلب – أسد الله ، وعم رسول الله .

فكيف يجمع بين النقيضين ، فالعمل يعني إظهار الحق وإزهاق الباطل ، وهذا إنما يعني إظهار فساد العلاقات القائمة بين الناس والنظام الراعي لهذه العلاقات . سواء أكانت علاقات اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية ، فالدستور والقوانين هي التي حددت هذه العلاقات وبينت كيفية تسييرها ، من السير في الشارع إلى كلمة التي يقولها ، ومن سلعة يبيعها أو بيت يستأجره أو بضاعة يستوردها أو يستوردها أو امرأة يتزوجها ، أو تركة يرثها أو مدرسة يؤمها ، أو مادة يدرسها فكلها علاقات نظمها القانون وقام الحاكم على تنفيذه . وإظهار أية مفسدة في ذلك إنما يعني إظهار مفاسد الحاكم والأجهزة القائمة على التنفيذ ، وهذه جريمة تؤدي بصاحبها إلى السجن أو القتل . وإيثار السلامة يقتضي القعود عن العمل . فكيف نوفق بين العمل والسلامة ؟ فالعمل يعني السجن والاضطهاد ، والقعود يعني الإثم وسخط رب العباد .

والله سبحانه وتعالى أمرنا بالعمل :{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }آل عمران(104) ، وقال رسول الله : (( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم }(رواه البزار والطبراني في الأوسط)، ويقول : (( الساكت عن الحق شيطان أخرس))، أو كما قال . فكيف نوفق بين العمل والسجن ، بين طاعة الله والسلامة. هذا ما تقتضيه المعاناة والصبر والتواصي بالصبر . وهذا ما يحدد معنى وجود الإنسان في الحياة . إما الخسران المبين ، وإما العمل والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وذلك هو الفوز العظيم.

ورحم الله من قال : (( والله لو لم أجد مقاومة من أهلي وأقرب الناس إلي ، ولو لم أجد مقاومة وصدوداً من الناس ، ومقاومة ومحاربة من النظم القائمة في العالم الإسلامي لشككت في الطريق الذي أسلكه لأن المقياس الثابت عندي قوله : (( لا راحة بعد اليوم يا خديجة ))، ومنهجي الوحيد طريقته التي سلكها ، وما قصه الله عليه من سير الأنبياء والمرسلين الأولين وما لاقوا من أقوامهم وأهلهم . وما أجود كلمة ورقة بن نوفل حين قال للرسول ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك فأنصرك نصراً مؤزراً . قال رسول الله : (( أو مخرجي هم يا عماه ، قال نعم ، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي )). { سنة الله في الدين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}الأحزاب(62).
قال تعالى :{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }البقرة(143) ، وقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ….}آل عمران(110) الآية .

أية أمة هذه ؟

إنها الأمة الإسلامية بدليل ما كتبه علي بن أبي طالب وما أملاه عليه محمد رسول الله في أول دستور مكتوب موقع عليه من علية القوم . حين هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة ، فكانت أول مادة فيه هي التعريف بهذه الأمة ، حيث جاء فيها : محمد رسول الله والذين معه من المؤمنين المسلمين أمة واحدة من دون الناس . هذه هي الأمة التي جعلها الله أمة وسطا . أي خير أمة أخرجت للناس ، تحتل مركز الصدارة في العالم حتى تستطيع أن تقوم بالمهمة التي كلفت بها ، أي الشهادة على الناس ، تماماً كالمهمة التي قام بها محمد . فقد كان في مركز الصدارة في هذه الأمة فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده . وترك في هذه الأمة الأمان من الضياع والوقاية من الضلال ، فقال عليه السلام : (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ))حديث صحيح رواه الحاكم برواية عن أبي هريرة رضي الله عنه.
هذه شهادة رسول الله على أمته ، وحجته عليهم فأين شهادة أمته على الناس ؟. وقد بكى رسول الله حين سمع قوله تعالى :{ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }النساء(41) . وقال للقارئ((حسبك)).

لقد تولى هذا الأمر رسول الله طيلة حياته ، حتى إذا اختار الرفيق الأعلى ، ترك هذا الأمر لأمته . فنهضت به وتولى قيادتها أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فأقام الشهادة على فارس والروم ، وسار في أثره عمر وتتابع بعده الخلفاء والأمراء حتى أقاموا الشهادة على الناس في ذلك العصر بحق . فكانوا أمة وسطا – كانوا الدولة الأولى التي تحتل مركز الصدارة في العالم ، وتقيم الحجة على الناس وتبلغ ما بدأ به . { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا }سبأ(28) . فحملت دعوة الإسلام وبلغتها إلى أمم الأرض قاطبة ، من حدود الصين شرقاً إلى مياه الأطلسي غرباً ومن تركستان وسمرقند وأذربيجان مروراً بآسيا الوسطى حتى أسوار فينا في أواسط أوروبا ، ومن جبل طارق إلى سهل بواتييه قرب باريس . واستمر الحال على هذا المنوال ما استمروا متصفين بما أمرهم الله به – يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر – فلما زاغوا ودب فيهم الوهن وابتعدوا عما أمروا به واقتربوا مما نهوا عنه ، وضعفت جذوة الإيمان في نفوسهم وساء فهمهم لمعنى وجودهم في الحياة ، ومعنى كونهم مسلمين ، كما ساء فهمهم للإسلام ، وانخفض تفكيرهم بل انحط في كثير من الأمور فانتشرت فيهم أمراض التجزئة والتخلف والانحطاط كالقومية والقبلية والوطنية والإقليمية والعصبية فدالت دولتهم وكسرت شوكتهم وهدمت دولتهم بل هدموا دولتهم ومزقوا راية مجدهم وتهافتوا على موائد الأمم يلتقطون من فتاتها ما يلم شعثهم ويقيم أودهم .

وورثنا نحن اليوم هذه التركة . والمطلوب هو { لتكونوا شهداء على الناس }البقرة(143) وهل نستطيع الشهادة على الناس دون أن نوجد الإسلام في واقع الحياة ، هل نستطيع الشهادة على الناس دون أن نستأنف نحن الحياة الإسلامية دون دولة تقيم الحدود وتحمي الثغور وترعى الشؤون ، وتطبق أحكام الإسلام في الداخل وتحمل الإسلام إلى أمم الأرض لتقيم عليها الحجة فتحقق بذلك الشهادة عليها ، أي أنها بلغت هذه الدعوة لكافة الأمم ، وبسطت سلطان الإسلام على الأرض وأظهرت أحكامه وبينت عقائده وأفكاره فلم يبق لأحد حجة على الله ، وهي الشاهدة على ذلك .

ورثنا هذه التركة ، أكثر من ألف مليون مسلم في أكثر من خمسين دولة ليس للإسلام فيها سلطان ، بل ليس له وجود في حياة الناس العامة ، أفراد اقتصر المؤمنون منهم على العبادات والأخلاق – إلا من رحم ربي – ومجتمعات تسودها الأفكار الرأسمالية والشيوعية والآراء الانهزامية والنفاق واللامبالاة ، وتنتابها المشاعر الوطنية والقومية والعصبية الروحية ودول تحكم بالأنظمة الرأسمالية والرأسمالية المرقعة والمصيبة الكبرى أنها جميعها مسيرة بإمرة الكفار وعملائهم .

وقادة سياسيون وتكتلات سياسية على اختلاف مشاربها تتسابق وتتناحر للحصول على مكاسب رخيصة وتحقيق أهداف آنية أنانية لم تعرف للنهضة أساساً ولم تستبن لها طريقاً . لا تجد عندها إلا شعارات لأفكار عامة لم تضع لنفسها منهجاً على الأقل يبين ما تريد نقل المجتمع إليه وإنهاضه على أساسه كما أنها لم توضح طريقة لها إلا المظاهرات ورفع الشعارات وممالأة الحكام والتزلف إليهم أو معاداتهم والتصدي لهم حسب مقتضى الحال وما يتطلبه تحقيق مصلحة أو ترضية الشارع معلمين الناس أن السياسة إنما هي خداع وتضليل ونفاق وتزلف للوصول إلى الأهداف وتحقيق الآمال . والأنكى من ذلك أنهم يرون وجوب الاستعانة بالكفار لتحقيق مآربهم والوصول إلى مقاصدهم أو على الأقل لا يرون غضاضة في ذلك دون أن يعلموا أنه انتحار سياسي . هذه هي التركة التي ورثناها وهذا هو واقع الأمة التي نريد التعامل معها لإنهاضها .



ليست هناك تعليقات: