الجمعة، 19 فبراير 2010

بلال بن رباح (رضي الله عنه)


بسم الله الرحمن الرحيم

لقد اشتاقت الجنة إلى ثلاثة: علي وعمار وبلال

مؤذن الإسلام ومزعج الأصنام بلال بن رباح الحبشي (أبو عبد الله)، الشديد السمرة، النحيف الناحل المفرط الطول، الكث الشعر، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه إليه، إلا ويحني رأسه ويغض طرفه ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل: «إنما أنا حبشي كنت بالأمس عبداً».

ذهب يوماً (رضي الله عنه) يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما: «أنا بلال وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، إن تزوجونا فالحمد لله، وإن تمنعونا فالله أكبر».

قصة إسلامه

إنه حبشي من أمة سوداء، كان عبداً لأناس من بني جُمَحٍ بمكة، حيث كانت أمه إحدى إمائهم وجواريهم، ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه حين أخذ الناس في مكة يتناقلونها، وكان يصغي إلى أحاديث سادته وأضيافهم، ويوم إسلامه كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر (رضي الله عنه) معتزلين في غار، إذ مر بهما بلال وهو في غنم عبد الله بن جدعان، فأطلع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رأسه من الغار وقال: «يا راع هل من لبن؟» فقال بلال: ما لي إلا شاة منها قوتي، فإن شئتما آثرتكما بلبنها اليوم. فقال رسول الله: «إيت بها». فجاء بلال بها، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقعبه، فاعتقلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحلب في القعب حتى ملأه، فشرب حتى روي، ثم حلب حتى ملأه فسقى أبا بكر، ثم احتلب حتى ملأه فسقى بلالاً حتى روي، ثم أرسلها وهي أحفل ما كانت. ثم قال: «يا غلامُ، هل لَكَ في الإسلامِ؟ فإني رسولُ الله». فأسلم، وقال: «اكتم إسلامك». ففعل وانصرف بغنمه، وبات بها وقد أضعف لبنها [أي زاد]، فقال له أهله: لقد رعيت مرعًى طيباً فعليك به، فعاد إليه ثلاثة أيام يسقيهما، ويتعلم الإسلام، حتى إذا كان اليوم الرابع، فمر أبو جهل بأهل عبد الله بن جدعان فقال: إني أرى غنمك قد نمت وكثر لبنها؟ فقالوا: قد كثر لبنها منذ ثلاثة أيام، وما نعرف ذلك منها؟ فقال: عبدكم، وربِّ الكعبة، يعرف مكان ابن أبي كبشة، فامنعوه أن يرعى المرعى، فمنعوه من ذلك المرعى.

افتضاح امره

دخل بلال يوماً الكعبة وقريش في ظهرها لا يعلم، فالتفت فلم ير أحداً، أتى الأصنام وجعل يبصق عليها ويقول: خاب وخسر من عبدكنّ، فطلبته قريش فهرب حتى دخل دار سيده عبد الله بن جدعان فاختفى فيها، ونادوا عبد الله بن جدعان فخرج فقالوا: أصبوت؟ قال: ومثلي يقال له هذا؟ فعلي نحر مئة ناقة للات والعزى، قالوا: فإن أسودك صنع كذا وكذا.
فدعا به فالتمسوه فوجدوه، فأتوه به فلم يعرفه، فدعا راعي ماله وغنمه فقال: من هذا؟ ألم آمرك أن لا يبقى بها أحد من مولديها إلا أخرجته؟ فقال: كان يرعى غنمك، ولم يكن أحد يعرفها غيره، فقال لأبي جهل وأمية بن خلف: شأنكما به فهو لكما، اصنعا به ما أحببتما. (وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أمية بن خلف الذي رأى في إسلام عبد من عبدانهم لطمة جللتهم بالخزي والعار، ويقول أمية لنفسه: إن شمس هذا اليوم لن تغرب إلا ويغرب [يغيب] معها إسلام هذا العبد الآبق!!).

العذاب

وبدأ العذاب، فقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها إلى جهنم قاتلة، فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر متسعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال ويلقون به فوقه، ويصيح به جلادوه: اذكر اللات والعزى، فيجيبهم: أحد أحد. وإذا حان الأصيـل أقاموه، وجعلوا في عنقـه حبلاً، ثم أمروا صبيانهـم أن يطوفوا به جبال مكـة وطرقها، وبلال (رضي الله عنه) لا يقول سوى: أحد أحد. قال عمار بن ياسر: كل قد قال ما أرادوا -ويعني المستضعفين المعذبين قالوا ما أراد المشركون- غير بلال. ومر به ورقة بن نوفل وهو يعذب ويقول: أحد أحد، فقال: يا بلال، أحد أحد، والله لئن مت على هذا لأتخذن قبرك حناناً (أي بركة).

الحرية

ويذهب إليهم أبوبكر الصديق (رضي الله عنه) وهم يعذبونه، ويصيح بهم: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم يصيح في أمية: خذ أكثر من ثمنه واتركه حراً. وباعوه لأبي بكر الذي حرره من فوره، وأصبح بلال من الرجال الأحرار.

الهجرة

و بعد هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين إلى المدينة، آخى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بين بلال وبين أبي عبيدة بن الجراح، وشرع الرسول للصلاة أذانها، واختار بلال (رضي الله عنه) ليكون أول مؤذن للإسلام.

غزوة بدر

وينشب القتال بين المسلمين وجيش قريش وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الإسلام، غزوة بدر، تلك الغزوة التي أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون شعارها: أحد أحد. وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف عبد الرحمن بن عوف صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاحتمى به وطلب إليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته، فلمحه بلال فصاح قائلاً: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي طالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبدالرحمن بن عوف: أي بلال، إنه أسيري. ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين فصاح بأعلى صوته في المسلمين. يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. وأقبلت كوكبة من المسلمين وأحاطت بأمية وابنه، ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئاً، وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف نظرة طويلة ثم هرول عنه مسرعاً وصوته يصيح: أحد أحد.

يوم الفتح

وعاش بلال مع الرسـول (صلى الله عليه وآله وسلم) يشهد معه المشاهـد كلها، وكان يزداد قرباً من قلب الرسـول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي وصفه بأنه رجل من أهل الجنة. وجاء فتح مكة، ودخل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الكعبة ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، ويؤذن بلال فيا لروعة الزمان والمكان والمناسبة.

فضله

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني دخلت الجنة، فسمعت خشفة بين يدي، فقلت: يا جبريل، ما هذه الخشفة؟ قال: بلال يمشي أمامك. وقد سأل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بلالاً بأرجى عمل عمله في الإسلام فقال: لا أتطهر إلا إذا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام: اشتاقت الجنة إلى ثلاثة: إلى علي وعمار وبلال.

وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني اعطيت أربعة عشر: حمزة وجعفر وعلي وحسن وحسين، وأبو بكر وعمر والمقداد وحذيفة وسلمان وعمار وبلال وابن مسعود وأبو ذر.

وقد دخل بلال على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتغدى فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الغداء يا بلال، فقال: إني صائم يا رسول الله، فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): نأكل رزقنا، وفضل رزق بلال في الجنة، أشعرت يا بلال أن الصائم تسبح عظامه، وتستغفر له الملائكة ما أكل عنده.
وقد بلغ بلال بن رباح أن ناساً يفضلونه على أبي بكر فقال: كيف تفضلوني عليه، وإنما أنا حسنة من حسناته!!

الزواج

جاء بني البكير إلى رسـول اللـه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: زوِّج أختنا فلاناً، فقال لهم: أين انتم عن بلال؟ ثم جاؤوا مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله أنكِحْ أختنا فلاناً، فقال لهم: أين أنتم عن بلال؟ ثم جاؤوا الثالثة فقالوا: أنكِحْ أختنا فلاناً، فقال: أين أنتم عن بلال؟ أين أنتم عن رجل من أهل الجنة؟ فأنكحوه.
وأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) امرأة بلال فسلم وقال: أثَم بلال؟ فقالت: لا،قال: فلعلك غضبى على بلال! قالت: إنه يجيئني كثيراً فيقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما حدثك عني بلال فقد صدقك بلال، بلال لا يكذب، لا تُغضبي بلالاً فلا يقبل منك عمل ما أغضبت بلالاً.

بلال من المرابطين

وذهب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى، ونهض بأمر المسلمين من بعده أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)، وذهب بلال إلى الخليفة يقول له: يا خليفة رسول الله، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله، قال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال؟ قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت، قال أبو بكر: ومن يؤذن لنا؟ قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع: إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله، قال أبو بكر: بلِ ابقَ وأذِّنْ لنا يا بلال، قال بلال: إن كنت قد اعتقتني لأكون لك فليكن ما تريد، وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له، قال أبو بكر، بل أعتقتك لله يا بلال. ويختلف الرواة في أنه سافر إلى الشام حيث بقي مرابطاً ومجاهداً، ويروي بعضهم أنه قبل رجاء أبي بكر وبقي في المدينة، فلما قبض وولي الخلافة عمر، استاذنه وخرج إلى الشام.

الرؤيا

رأى بلال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزيناً، فركب إلى المدينة، فأتى قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يقبلهما ويضمهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السحر. فعلا سطح المسجد، فلما قال: الله أكبر الله أكبر، ارتجت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، زادت رجتها، فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله، خرج النساء من خدورهن، فما رؤي يوم أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم.

الأذان الأخير

وكان آخر أذان له يوم توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعندما زار الشام أمير المؤمنين عمر  توسل المسلمون إليه أن يحمل بلالاً على أن يؤذن لهم صلاةً واحدةً، ودعا أمير المؤمنين بلالاً، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها، وصعد بلال وأذن فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبلال يؤذن، بكوا كما لم يبكوا من قبل أبداً، وكان عمر أشدهم بكاءً.

وفاته

مات بلال في الشام مرابطاً في سبيل الله كما أراد ورفاته تحت ثرى دمشق على الأغلب سنة عشرين للهجرة.

أبو أحمد - تفوح - فلسطين

المصدر: مجلة الوعي

ليست هناك تعليقات: